انفصام الشخصيّة العربيّة ما بين الوحدة والتجزئةفؤاد مرعي *
مرّت الذكرى الخمسون للوحدة بين مصر وسوريا (1958 ـ 1961) فيما العالم العربي منقسم ومشرذم أكثر من أي وقت مضى. تلك الوحدة كانت محاولة جريئة (وإن غير مدروسة) لتجسيد الحلم القومي العربي بخطوة أولى على أرض الواقع. منذ ذلك الوقت، حُرّرت صفحات ومقالات لا تُحصى في نقد وتقويم هذه التجربة. لم تطعن أيّ من التحليلات السابقة بـ«شرعية» أو «مشروعية» محاولة التوحيد الأولى في التاريخ العربي الحديث. لا بل هي انطلقت من زاوية اعتبار أنّ ما حدث كان فرصة ضائعة لم يُكتَب لها النجاح، وأنّه ينبغي البحث عن أسباب الفشل من أجل تلافي تكرار ما حدث في المستقبل. لذا فقد استمرّت محاولات التوحيد برغم ما آلت إليه التجربة الأولى المُجهَضة، كانت أهمّها الوحدة الثلاثية بين مصر وسوريا والعراق عام 1963، ومحاولات توحيد ليبيا ومصر والسودان في السبعينيات. كذلك محاولة توحيد سوريا والعراق عام 1979. كلّ هذه المحاولات باءت بالفشل. لكن بقي الحلم القومي العربي ـ في الثقافة العربية السائدة ـ حيّاً على الرغم من الفشل وغياب الرمز الذي جسّد هذا الحلم أي القائد جمال عبد الناصر. الدليل على ذلك أنّ أدبيّات الخطاب السياسي والثقافي العربي بقيت تعتقد بضرورة وإمكان تحقيق نوع من الوحدة يجسّد القوميّة الجامعة للعرب، بغضّ النظر عن شكل هذه الوحدة. كما أنّ جامعة الدول العربيّة استمرّت في أداء وظيفتها الرسمية بعد غياب عبد الناصر، إلى أن قام الرئيس أنور السادات بزيارته المفاجئة لتل أبيب وما تلاها من توقيع اتفاقيات كمب دايفيد التي أخرجت مصر من الصراع العربي الإسرائيلي. إثر ذلك، نُقل مقرّ الجامعة من القاهرة إلى تونس وعُيّن الشاذلي القليبي أميناً عاماً لها. ولم تستعد القاهرة دورها كعاصمة للجامعة إلا بعد مقتل الرئيس أنور السادات وعودة مصر إلى الصف العربي، وإن مصحوبة باتفاقات انفرادية عطّلت دورها العربي وكانت السبب في اختلال ميزان القوى السياسي والعسكري لمصلحة الطرف الإسرائيلي.
الجيوبولوتيك ضدّ العرب
وقد أدّت القضية الفلسطينية دور المحرّك لكلّ أشكال التضامن العربي بعد نكسة عام 1967 بحضور ومشاركة منظمة التحرير الفلسطينية، إلا أن الانقسام الذي كان سائداً قبل الهزيمة بين تيّار عربي مؤيّد وتيّار متحالف مع الاتحاد السوفياتي، استمرّ حاضراً في علاقات الدول العربية بعضها ببعض، فكانت مؤتمرات القمّة المتعاقبة بمثابة فروض تؤدّيها الأنظمة العربية كلّما دعت الحاجة إلى الالتئام بسبب تطوّرات الصراع العربي الإسرائيلي. والكلّ يتذكّر «لجنة تحرير القدس» التي تأسّست في القمّة العربية التي عُقدت في الرباط برئاسة العاهل المغربي الحسن الثاني.
بعد ذلك بسنوات، ذهب العرب إلى مدريد للتفاوض مع إسرائيل بشكل جماعي. لكن هذه الأخيرة استطاعت أن تفرض عليهم صيغة مفاوضات انفرادية. هكذا أسهمت الجغرافيا الكيانية والجغرافيا السياسية في عدم تمكين العرب من الاستفادة من ميزان القوى الجماعي مع عدوهم المتفوّق عليهم، فتفرّقت صفوفهم حتى على طاولة المفاوضات، وتشتّتت جهودهم السياسية والدبلوماسية نتيجة رضوخ الأنظمة المتحالفة مع أميركا للضغوط. وكان قد سبق مؤتمر مدريد الذي عقد بعد احتلال الكويت وتحريرها، قيام حملات إعلامية وسياسية قسّمت العالم العربي إلى محورين: محور مساند للعراق (اليمن ومنظّمة التحرير الفلسطينية) وآخر مساند للكويت (دول الخليج ومصر وسوريا ولبنان وباقي الدول العربية). منذ ذلك الحين، اكفهرّت الأجواء العربية وانقسم العالم العربي، أنظمة وشعوباً، إلى فريقين. بدا أنّ العرب عاجزون عن إيجاد قواسم مشتركة حول قضايا جوهرية تطاول مصالحهم الحيوية. انعكس ذلك في الأدبيات السياسية التي راحت تنعى المشروع القومي العربي، وخاصة أن بدايات عصر العولمة راحت تبشّر بكسر الحدود بين الدول، وبقيام اتحادات إقليمية كبيرة كاتحاد دول جنوب شرقي آسيا، واتحاد دول أميركا اللاتينية والاتحاد الأوروبي. وقد ترجم العرب هذا التوجّه العالمي بقيام اتحادات جزئية مناطقية كـ«اتحاد المغرب العربي» الذي سرعان ما انهار بسبب الخلافات المستحكمة بين أعضائه، و«مجلس التعاون الخليجي» الذي بقي صامداً حتى اليوم لأسباب عديدة منها وحدة الموقف السياسي (والمظلّة السياسية الخارجية) ووفرة الموارد الاقتصادية.
وقد برز في وقت من الأوقات محور ثلاثي (لا يرقى إلى درجة التحالف) مؤلَّف من مصر وسوريا والسعوديّة أدّى دوراً مركزياً على الساحة العربية. جرى ذلك في ظلّ مناخات كانت توحي بوجود بصيص أمل نحو سلام (أو تسوية) في الشرق الأوسط. فلقد ظلّت الإدارة الأميركية الديموقراطية برئاسة بيل كلينتون تراهن حتّى اللحظات الأخيرة على نجاح مفاوضات السلام بين إسرائيل والعرب (سوريا والفلسطينيّين ولبنان). وإذا كان الرهان على المفاوضات قد خلق أرضية ملائمة لتهدئة الخلافات العربية، فإن الانتصار اللبناني عام 2000 أعاد الاعتبار إلى وزن الموقف العربي بإضافة عناصر جديدة له. دعم هذا الاتجاه تفجّر الانتفاضة الفلسطينية في الأراضي المحتلّة في العام ذاته. إلّا أن وصول المحافظين الجدد إلى سدّة الرئاسة في أميركا وأحداث 11 أيلول عام 2001 قلبت الأوضاع رأساً على عقب. لذا بقيت مقرّرات القمّة العربية التي عُقدت في بيروت عام 2002 (ومن ضمنها مبادرة السلام) حبراً على ورق. فلقد انطلق الهجوم الأميركي المضاد المُتّسم بالجذرية والشمولية نحو الشرق الأوسط بدءاً بأفغانستان حاملاً معه خطّته الاستراتيجية الكبرى التي تتجاوز الصراع العربي الإسرائيلي.
اتحاد متخيَّل في الوعي العربي
مع هذا التطوّر الذي أدّى إلى احتلال العراق، انتكس التضامن العربي من جديد وتراجعت مستويات التنسيق الرسمي جنباً إلى جنب مع احتدام الصراع العربي ـ العربي. وبدلاً من بقاء بعض العلامات التي تشير إلى إمكان إنعاش المشروع القومي العربي بجرعات خفيفة من التضامن، دخل هذا المشروع في غيبوبة الانقسامات العربية الحادّة مع محاولات (ما زالت تجري) لقسمة الشارع العربي على أساس طائفي ومذهبي، أو بين محورين: معتدلين ومتطرّفين. نحن اليوم نعيش في فترة تخلّع المشروع القومي العربي من الداخل والخارج. وما الأحداث التي جرت بالأمس القريب على الحدود المصرية ـ الفلسطينيّة سوى دليل صارخ على عجز أكبر دولة عربية عن نجدة جزء من الشعب الفلسطيني في منطقة تقع على الحدود المصرية يحاصرها الجيش الإسرائيلي، بغضّ النظر عمّن يحكم هذه المنطقة.
إنّ مسؤوليّة مصر القومية والإنسانية تقتضي عدم السماح لإسرائيل بتجويع الفلسطينيّين في قطاع غزة. هذا الموقف لا يستدعي إعلان حرب فورية على الكيان الإسرائيلي. إلا أنّ المشكلة التي لا يدركها النظام في مصر ـ وأيّ نظام عربي آخر ـ هي أنّ الإحباط المخيّم على الشارع العربي سببه الأساسي هذا الموقف المتخفّف من المسؤوليّة ما يفسّر عدم القدرة، وعدم الرغبة، لدى الأنظمة العربية، في التقدّم إنشاً واحداً نحو تعاون عربي حقيقي. هذا من ناحية أولى، من ناحية ثانية، فإن المأمول من هذا الاتحاد المتخيّل في الوعي العربي الجمعي أن يقيم سوقاً عربية مشتركة توظّف ملايين العاطلين عن العمل وتبني اقتصاداً صناعياً وزراعياً حديثاً يشارك في الإنتاج العالمي من موقع الشريك لا من موقع التابع. إن هذه المسؤولية تقع على عاتق الأنظمة العربية وهي أنظمة قمعية متخلّفة معادية للحريات ومتحالفة مع قوى خارجية عظمى تحميها. كل هذه الحيثيات تؤدّي إلى استنتاج مفاده أن خلاص الشعوب العربية لا يمكن أن يتحقّق إلا عبر صراع مرير من أجل فرض أنظمة بديلة ذات طابع ديموقراطي تعمل على قيام اتحاد عربي مستقلّ ومشارك في النظام العالمي.
هذا يعني أنّ العمل يجب أن يبدأ في كلّ ساحة عربية على حدة، ولا ضير من التنسيق من أجل المؤازرة والمساندة عندما تدعو الحاجة، شرط عدم مصادرة القرار الداخلي المستقلّ لكلّ طرف عربي. إنّ الوعي، لا الانفعال والعاطفة، هو ما ينبغي أن يقود النضالات القادمة للوحدويّين العرب. فمن دون تحقّق الهوية القوميّة في مشروع اتحادي ناجز سيظلّ العرب يشعرون بعقد النقص نتيجة عدم اكتمال شخصيتهم السياسية. هذا على المستوى النفسي والمعنوي والثقافي، أما على المستوى السياسي والاقتصادي، فإنهم سيظلون شعوباً متخلّفة، مأزومة، غير مشاركة، متصارع عليها، وجاذبة لكل أنواع التدخلات.
إن أوّل لبنة في بناء الوعي العربي السليم، تتجلّى في إدراك أهمية تلازم الديموقراطية مع العمل من أجل قيام الوحدة العربية سواء اتخذت شكلاً فدرالياً أو كونفدرالياً، وفي الوقت ذاته إدراك أن قيام اتحاد عربي ذي موقع جغرافي استراتيجي وثروات نفطية هائلة هو أمر لا مصلحة للقوى الخارجية (ومنها إسرائيل) في حدوثه.
لهذا السبب، فإن قوى التغيير العربية محكومة بخوض صراع كبير على جبهتين في وقت واحد.
لكن لا بدّ من الإشارة إلى أن الوحدة العربية قائمة اليوم على مستوى اللغة والأدب والفن ووسائل الإعلام والرأي العام... وكلّ ما يصنع الوعي الجمعي المشترَك والذاكرة القومية الواحدة، أمّا الحدود والثروات الوطنية والمؤسّسات الحكومية وعلاقات التبعية للغرب، فلها حراس يمنعون العامّة من الاقتراب منها لأنّ وظيفتها الأساسية تتلخّص في حماية واقع التقسيم والدفاع عنه. واللافت في الأمر، هو أنّ العالم يتعامل معنا كعرب ذوي هوية واحدة، فيما تتعامل معنا الأنظمة العربية كـ«قبائل» ينبغي تفريقها من أجل السيطرة عليها.
* كاتب لبناني