منير سعيد مهنّاقلّة من الناس ينسكب الحقّ في ذواتهم، فيصبحون في مسيرة الحياة أعلاماً، تضيء منائر فكرهم دروب الحقيقة فيشهد الحقّ لهم بانتصار البصيرة على البصر، ويشعّ من وهج أقلامهم ضياء الفجر الآتي من عتمة الليل ليكشح رماد الظلمة عن وجه الجمر الساكن في مقلة النسيان.
واحد من أولئك المتوهجين بنور العقل الأزلي، الملتحفين بعباءة النهج السقراطي كان العالِم والمؤرخ الإيطالي مارتينيانو روناكليا المتوفّى في بيروت عن 85 عاماً أمضى جلّها في البحث والتأليف مشاركاً ومعدّاً لأكثر من موسوعة دينية منها «الموسوعة الكاثوليكية» (الفاتيكان)، والموسوعة القبطية (نيويورك)، والموسوعة الإسلامية الدبلوماسية، والموسوعة الأرمنية والموسوعة المارونية، إضافة إلى أبحاث تاريخية منها: «تاريخ الكنيسة القبطية»، في أربعة أجزاء، و«يوميات فخر الدين في توسكانا بحسب المصادر والوثائق الإيطالية». وكان إصداره الأخير في العام الماضي كتاب «على خطى يسوع المسيح في فينيقيا ـ لبنان» الصادر عن المؤسّسة العربية للدراسات ما بين الشرق والغرب ـ بيروت. وقد أهداه إلى لبنان الشعب والحضارة بعدما أمضى في ربوعه قرابة نصف قرن وهو المتزوج باللبنانية أستاذة اللاهوت سميرة باسيل.
أتقن البروفيسور رونكاليا 12 لغة بينها الفينيقية والعربية والإيطالية والعبرية والفرنسيّة والتركيّة واللاتينيّة والفارسيّة والألمانيّة والإنكليزيّة والأرمنيّة. زاول تدريس التاريخ في الجامعة اللبنانية وبقي إلى آخر أيامه مثال العالِم والباحث، يقطع وقته بالدراسة والتأليف، جامعاً وموثّقاً لما اختزنه فكره من رؤية إنسانية لمسار تطوّر الأديان التوحيدية. كان حازماً في تأكيد الحقائق التاريخية التي يعلنها بصدقية علميّة عالية، معزّزة بالوثائق والوقائع والتحليلات.
قادني البحث حول تاريخ حرمون إلى لقائه أكثر من مرة، مخصّصاً لي جزءاً من وقته، عرضت معه ما توصّلت إليه من وقائع لأسماء أمكنة تاريخية موجودة في أرض حرمون، تشير إلى أن السيد المسيح جاء بتلامذته ليكون تجلّيه على «الجبل المقدس ـ حرمون» حيث «وادي الراهب» إلى جانب «تلة التجلّي» وكيف أن «فقعوتو» السريانية (وتعني الوادي الفسيح) هي المكان الذي قدّم فيه قايين وهابيل الأضاحي إلى الرب هي منطقة «الفاقعة» في حوض حرمون، إضافة إلى ما تختزنه ذاكرتنا الشعبية من أمثال وأساطير ترتبط بتراثنا الحضاري حول موضوع التجلّي، وكان يستمع بإصغاء فائق وعلى وجهه علائم الغبطة والسرور والدهشة أحياناً، لأن ما كتبه من وقائع في كتابه «على خطى يسوع المسيح في فينيقيا ـ لبنان» كان بالارتكاز على أبحاثه الليتورجية في تاريخ الكتاب المقدس، مستنداً إلى وثائق قديمة في أرشيف الكنيسة الكاثوليكية وعلى لسان مؤرخيها.
عمل البروفيسور رونكاليا على إثبات أنّ المعجزة الأولى للسيد المسيح في تحويل الماء إلى نبيذ كانت في «قانا» الجنوبية اللبنانية وليس في «كفركنا» الفلسطينية، وقال أيضاً: إن اليهود يحاولون تزوير التاريخ، بينما الحقائق ثابتة ودامغة. وكان لوقع كتاباته صدى بين الباحثين والمؤرخين اليهود، الذين ردوا على ما كتبه ونشره بالنفي والتشكيك.