وليد زغلولكنّا شهوداً في لبنان على بدايات الحرب عام 1975، وكانت الاحتجاجات أعلى من التي تحصل اليوم وكذلك التظاهرات فالمواجهات. كان يسقط شهداء في الشوارع (كما يحصل اليوم) وكانت الدعوات تنطلق فوراً لمعرفة مَن أطلق النار مصحوبةً بخلاف سياسي على مستوى الطبقة الحاكمة وتوظيف حزبي داخلي للأزمات من أجل الانطلاق ممّا حصل إلى مرحلة تصعيدية أكبر شعاراتها أكثر حماسة وعنفاً.
لسنا هنا في مجال التأريخ والبحث لكننا نتذكّر فقط كيف استقطبت الأحزاب مزيداً من الجماهير والمناصرين آنذاك، وانقسمت الساحات وتداخلت الشعارات وانفتحت الأبواب للدول القريبة والبعيدة، ففصيل يتّهم الآخرين بالعمالة للفلسطينيّين ولاحقاً للسوريّين وفصيل يتهم الآخرين بالعمالة لإسرائيل وأميركا، وغابت نهائياً القضايا المطلبية المعيشية التي ملأت الشوارع وحلّ التخوين والتشهير وشعارات المشاركة السياسية... وكان يكفي للانفجار الكبير حادثة واحدة أشعلت لبنان 17 عاماً.
كان «الشهداء» يسقطون في مواجهة أعداء «وحدة وعروبة وسيادة لبنان» فصاروا يسقطون بخلاف على أولوية المرور بين فصيلين حزبيَّين من الفصائل الكثيرة التي نبتت على هامش الحرب، والفاجعة أن هذين الفصيلين مثلاً انقرضا قيادة وقاعدة وأهدافاً بعد سنوات ولم يعد ذوو الضحايا يعرفون أين «استُشهد» أولادهم وفي مواجهة مَن ومن أجل ماذا.
كان الشاب في أواخر سبعينات القرن الماضي إذا «استشهد» في صراعات الأحزاب بعضها مع بعض مصدراً تمويلياً لحزبه حيث توضع صورته على الجدران مع اسم حزبه وترسل بياناته إلى هذا الفصيل الفلسطيني ليدفع أو إلى تلك الدولة العربية لتدعم، وكم كانت المأساة كبيرة حين تجد صورة «الشهيد» على بوسترات حزبين معاً، كل واحدٍ منهما يدّعي أنه سقط من صفوفه من أجل «قضيته الكبيرة».
هل يعلم الجيل الجديد من اللبنانيين ما هي الحرب؟ ليراقب فقط كيف بدأت، بين يسار ويمين وخط عروبي وخط لا عروبي وأنصار القضية الفلسطينية وأعدائها، ثم صارت بين «غربية» و«شرقية»، فبين مسيحيين ومسلمين ثم بين مسلمين ومسلمين ومسيحيين ومسيحيين ثم بين فصائل سنية ـ سنية وأخرى شيعية ـ شيعية وبين أحزاب ومناطق مسيحية ضد أحزاب ومناطق مسيحية.
وكانت إسرائيل مستفيدة من كلّ ذلك، فنفّذت مخطّطاتها في لبنان اجتياحاً وتقسيماً إلى أن أذاقها المقاومون البواسل الشرفاء كأس الهزيمة في تموز رافعين رأس كل لبناني وكل عربي.
هل يعلم الجيل الجديد من اللبنانيين ما هي الحرب؟ هي أن تتهجّر من مكان إلى مكان، أن ترغب في الموت أحياناً بدل مهانة افتراش الأرض في مدرسة وذل الحاجة إلى الملابس والطعام ومد اليد من أجل حليب الأطفال أو حصة تموينية، أن ترسل ابنك مضطراً إلى هذه الجهة السياسية ـ العسكرية أو تلك من أجل الحماية والمخصّصات المالية فيضطر إلى مواجهة شقيقه أو قريبه أو جار طفولته، أن تقف في طوابير الهجرة أمام السفارات أملاً في تأشيرة تخوّلك السفر فتُحشَر كالأغنام في سفينة شحن إلى بلاد أخرى ترضى بك عاملاً في محطة وقود أو تصرف لك مبلغاً من المال نظير لجوئك الإنساني.
هل يعلم الجيل الجديد من اللبنانيين ما هي الحرب؟ هي أن تنقل طفلك المصاب بشظية أو برصاصة إلى مستشفى فيموت بين يديك لأن الطبيب لم يستطع الوصول بسبب الطرقات المغلقة أو لأن المستشفى بلا كهرباء أو أوكسيجين...