أحمد بهاء الدين شعبان *لم يكن الرئيس أنور السادات يهزل حينما ابتدع مصطلح «ديموقراطية الأنياب» أو «مفرمة القوانين»، فالفكر الحاكم في عصره وعصر أسلافه لم يكن يؤمن بالديموقراطية ابتداءً، وهو إن اضطر لترديد مقولاتها أو التشدق بمصطلحاتها، مواكبة للعصر أو مجاراة للشعارات السائدة في البلدان التي كان يتوجه لها بالخطاب طلباً للدعم والمعونة، كالولايات المتحدة وأوروبا، كان يبذل أقصى جهده وجهد «ترزية القوانين» العاملين في خدمته، من أجل التحايل على الأمر برمته، وتفريغ كل المفاهيم المرفوعة من محتواها الحقيقي، والانقلاب على مضمونها، لكن بشرط، وهذا هو المهم دائماً، أن يكون «كله... بالقانون».
سجلّ السادات الحافل
لذلك كان من الطبيعي أن يواجه السادات الانتفاضة الشعبية في 18 و19 كانون الثاني/ يناير 1977 باعتبارها «انتفاضة حرامية». وبدلاً من أن يتفهم دوافعها الموضوعية ومبرراتها الواقعية، فيعمل على رفع الأعباء التي تثقل كاهل المواطنين، لجأ إلى استخدام أقصى درجات العنف في مواجهتها. فبمجرد استعادته للسيطرة على مقاليد الأمور، بعد نزول الجيش إلى الشارع، شرع في التنكيل بخصومه من الشيوعيين واليساريين بتهمة التحريض على الانتفاضة، وأحال 176 من قياداتهم إلى المحاكمة العاجلة، وشن حملة ترويع واسعة النطاق، مرّر عبرها سلسلة من القوانين المعادية للحرية، على رأسها القانون الرقم (2) لسنة 1977، الذي سُنّ على عجل ليصدر عن «مجلس الشعب» في 3/2/1977 (أي في أقل من أسبوعين بعد الانتفاضة)، والذي «يعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة كل من دبر أو شارك في تجمهر يؤدي إلى إثارة الجماهير»، أو شارك في «اعتصام من شأنه أن يعرِّض السلم العام للخطر»، وكذلك «يعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة العاملون الذين يضربون عن عملهم عمداً، متّفقين في ذلك أو مبتغين تحقيق غرض مشترك، إذا كان من شأن هذا الإضراب تهديد الاقتصاد القومي». والأطرف في هذا القانون أنه نص على أن هذه العقوبات «تطبق على مدبّري التجمهر، ولو لم يكونوا مشتركين فيه، وعلى المحرضين والمشجعين»، وهي عقوبة يبدو من ظاهرها أن المشرعين من «ترزية القوانين» فصّلوها على مقاس قادة القوى والأحزاب المعارضة، والمفكرين والصحافيين من «الأفندية الأراذل»، على حد وصف السادات، الذين لم يثبت اشتراكهم في الأحداث، لكن النظام رأى الانتقام منهم ـ بالمناسبة ـ لسبب في نفس يعقوبومن أسوأ القوانين التي أصدرها السادات في تلك الفترة «قانون حماية القيم من العيب» الذي أصدره في 15 أيار/ مايو 1980، في ذكرى مؤامرة استيلائه على السلطة عام 1971، وهو قانون مستمد من التقاليد الفاشية، يصطنع محكمة استثنائية خاصة أطلق عليها اسم «محكمة القيم»، جُر إليها خصوم السادات أو النظام، دون ضمانات، بعيداً عن قاضيهم الطبيعي، بتهم مائعة فضفاضة، حتى يمكن الانقضاض عليهم وحرمانهم كل حقوقهم المدنية. كما صادر ذلك القانون كل حريات التعبير الأولية، ومنها: «القول أو الصياح العلني جهراً، أو بترديده بإحدى الوسائل الميكانيكية، أو إذاعته باللاسلكي، أو أي طريقة أخرى، أو بالإيماءة أو الإشارة»!
وفضلاً عن ذلك، كان نظام السادات قد كبّل المواطن المصري والقوى السياسية، بحزمة من القوانين الاستبدادية التي عـّز نظيرها: «القانون الرقم 34 لسنة 1972 بشأن حماية الوحدة الوطنية»، و«القانون الرقم 40 لسنة 1977 بنظام الأحزاب السياسية»، و«القانون الرقم 33 لسنة 1978 بشأن حماية الجبهة الداخلية والسلام الاجتماعي» إلخ... وهي ترسانة قوانين القمع التي قضت على الحياة السياسية في مصر، وفتحت الباب على مصراعيه أمام عمليات النهب المنظم للثروة الوطنية، وأطلقت موجات التطرف الديني والأصولي التي عمت البلاد، وانتهت بأن دفع السادات حياته ثمناً لإطلاقها، وأدت، بشكل عام، إلى تردي الأوضاع إلى درجة غير مسبوقة، ووصول الأزمة المركّبة في الفترة الراهنة إلى ما هي عليه من شدة واحتدام.
إضافات مبارك
لم يكتف الرئيس حسني مبارك، بعد تولّيه الحكم، بهذا القدر من القوانين المكبلة للحريات، بل أضاف إليها مجموعة جديدة من القوانين، مثل «القانون 100 بشأن تنظيم النقابات المهنية» الذي يتيح للنظام فرض الحراسة على النقابات المهنية العصيّة على السيطرة، وهو ماحدث ـ على سبيل المثال ـ بالنسبة إلى نقابة المهندسين التي أخضعت للحراسة منذ 12 عاماً، وكذلك «قانون الصحافة» لسنة 1996، الذي يعاقب بالحبس الانتقامي والغرامات الباهظة من ينتقد النظام، وبموجبه يُحاكم الآن خمسة من رؤساء تحرير الصحف المستقلة والحزبية، وصحافيون آخرون. كما استحدثت المادة 79 فى التعديلات الدستورية الأخيرة التي تمنح جهاز الأمن سلطات استثنائية فى القبض على الأشخاص واحتجازهم، دون أمر قضائي مسبق.
لكن الأخطر من كل هذه الترسانة القانونية المعادية للحريات، هو الفرض الممتد لـ«حالة الطوارئ» المعلنة منذ اغتيال السادات في السادس من شهر تشرين الأول/ أكتوبر عام 1981، وما زالت مستمرة منذ 27 عاماً بالتمام والكمال! وفي ظل هذه الحالة، سجلت فترة حكم مبارك أعلى معدّلات إعدام في تاريخ مصر الحديث، بمرحلتيه الملكية والجمهورية. وتتضمن القوانين المصرية أكثر من 57 نصاً تجريمياً في القوانين المصرية، وُضعَت فى ربع القرن الأخير وحسب، كان من نتيجتها صدور أحكام بإعدام نحو تسعمئة مواطن، منها مئة وخمسة وخمسون حكماً بالإعدام صدرت عن محاكم عسكرية واستثنائية، نال منها عناصر جماعات العنف (الإسلامي) مئة حكم، نُفّذ منها 76 حكماً، والبعض الآخر في انتظار التنفيذ.
ومع تصاعد وتيرة الانتقاد الداخلي والخارجي لوضع حالة الطوارئ الممتد بلا ضرورة تجيزه، لم يجد النظام بدّاً من التحوّل عن هذه الحالة دون أن يعني ذلك بأي حال التخلّي عن هيمنته المطلقة على السلطة، وانفراده الكامل بالحكم. ومن هنا أعلن اتجاهه لإلغاء «حالة الطوارئ»، واستبدالها بقانون جديد لـ«مكافحة الإرهاب»، رغم أن ترسانة القوانين التي يمتلكها النظام فيها الكفاية وزيادة. وفي وقت سابق، عندما اشتدّ ضغط القوى السياسية والجماعات القانونية والحقوقية المصرية وإلحاحها من أجل إلغاء حالة الطوارئ، طمأنهم صفوت الشريف، الأمين العام للحزب الحاكم، وأحد الأركان الأساسية للنظام، بأنهم «سوف يندمون على مطالبتهم هذه حينما يصدر قانون مكافحة الإرهاب»!
ولم يخلف السيّد الشريف وعده! فمواد القانون التي سربتها الصحافة غير الحكومية، بينت للجميع، بوضوح لا مزيد عليه، أن صياغتها لم يُقصد منها مواجهة «الإرهاب» المزعوم، بل جعلها فى المقام الأول سيفاً مصلتاً على رقاب الأحزاب والقوى (الإخوان المسلمين)، والحركات السياسية الاحتجاجية الجديدة (مثل كفاية وأخواتها)، والاتجاهات المعارضة، وجماعات المجتمع المدني، والتحركات الشعبية. فالمعارضة السياسية والحركات الجماهيرية اتخذت أبعاداً بالغة الخطورة فى الشهور الماضية، باتت تقض مضاجع القائمين على الحكم وتدفعهم دفعاً إلى محاولة إجهاضها قبل أن يشتد عودها وتصبح عصية على الاقتلاع، وخاصة مع انضمام موظفي الحكومة، لأول مرة منذ ثورة 1919 إليها، كما حدث فى إضرابات الـ 55 ألفاً من موظفي «الشهر العقاري» أوائل هذا العام حين عسكر لما يقرب من أسبوعين كاملين العاملون وأسرهم وأطفالهم فى الشوارع حول مقر مجلس الوزراء، رغم البرد والمطر، وسط تعاطف جماهيري جارف، حتى أجبرت السلطة على التراجع والتسليم بمطالب المعتصمين.
إن الممارسات الاحتجاجية قد فاقت الألف موقعة على امتداد العام الماضي وما انقضى من هذا العام. وهي مرشحة للتزايد والتعمق والتوحد، بفعل العجز الموضوعي للنظام عن تلبية الحاجات الضرورية لـ 75 مليون مصري لم يعد من الممكن تأجيلها. كما أن «تابو» مواجهة السلطة، الذي كسرته حركة «كفاية»، منذ تظاهرتها الأولى في 2004، لم يعد يرهب أبناء الشعب، وخاصة مع الاتساع الهائل في الفروق الطبقية، وفساد جهاز الحكم وعجزه عن النهوض بأبسط واجباته مثل تنظيف الشوارع أو تنظيم المرور أو حفظ أمن المواطن، فضلاً عن توفير رغيف الخبز الصالح للأكل، أو المياه الصالحة للاستخدام الآدمي، أو السكن اللائق (ولو في حده الأدنى)، أو كفالة الصحة العامة للمواطنين.
ولأن النظام قد اهترأ وتفسخ، وأعجزه الفساد والتفكك، وأنهكته صراعات المصالح بين أركانه وعزلته عن الناس، وحالت بينه وبين الإحساس بنبض الشارع أو إدراك الأسباب الحقيقية التى جعلت المواطن المصري يتجاوز «الخط الأحمر» ويتخلى عن حذره الموروث في الاصطدام بالسلطة، فهو لم يعد يملك ـ في مواجهة هذه الأزمة التاريخية المستحكمة ـ سوى تصدير جهازه الأمني في مواجهة كل حدث اجتماعي أو سياسي، فأصبح من الشائع يومياً مشاهدة جحافل قوات الأمن المدججة بالسلاح، وفرق «الكاراتيه» والبلطجية (لزوم مواجهة المحتجّين والمعارضين)، وهي تسدّ الشوارع في العاصمة والمحافظات لمواجهة أبسط التجمعات.
ماذا يتضمّّن قانون «مكافحة الإرهاب» إذاً؟
القراءة الأولية لمسودة القانون (الذي يُفترض وضعه موضع التنفيذ قبل انتهاء فترة الطوارئ الحالية في 31 أيار/ مايو المقبل) تشي بغاياته. فهي تشير بشكل لا لبس فيه إلى أن تعريفه للفعل «الإرهابي» يتجاوز تماماًً الاقتصار على مواجهة هذا الأمر إلى محاصرة كل النشاط السياسي السلمي الديموقراطي المعارض، فيماهي القانون بين قاتل يسفك الدماء البريئة، ومتظاهر هدّه الجوع فخرج يجأر بالشكوى من سوء الحال! إذ عرّف القانون الفعل الإرهابي بأنه «كل تهديد أو ترويع أو تخويف يهدف للإخلال بالنظام العام أو يعطل تطبيق أحكام الدستور أو القوانين أو اللوائح، أو يمنع ممارسة السلطات العامة، وكل سلوك يضر بالاتصالات أو النظم المعلوماتية(!) أو الاقتصاد الوطني، أو يضر بمعالم الدولة في الداخل والخارج» (مادة 1).
كما حظر المشروع وجرّم وعاقب «كل من أنشأ أو أسس أو نظّم أو أدار جمعية أو هيئة أو منظمة أو جماعة أو عصابة، يكون الغرض منها الدعوة بأي وسيلة إلى تعطيل أحكام الدستور أو القوانين، أو منع إحدى مؤسّسات الدولة أو إحدى السلطات العامة من ممارسة أعمالها، أو مقاومة هذه السلطات، أو الاعتداء على الحرية الشخصية للمواطن(!) أو غيرها من الحريات أو الحقوق العامة التي كفلها الدستور والقانون، أو الإضرار بالوحدة الوطنية(!)، أو أمدّها بمعونات مادية أو مالية مع علمه بالغرض الذي تدعو إليه» (مادة 10).
وكما هو واضح، فقد دسّ «ترزية القوانين» من أشياع النظام بين طيات نصوص قانون يفترض فيه محاصرة ظاهرة الإرهاب، مجموعة من البنود الموجهة ـ بالدرجة الأولى ـ لمحاصرة خصومه السياسيين، وبالذات في جماعة «الإخوان» وحركة «كفاية»، مثلما يرى عمرو ربيع هاشم، الباحث في «مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية» الذي يقول: «فكل مواد قانون الإرهاب تهدف، بالأساس، إلى حماية أمن النظام الحاكم الذي بات يجد أي عمل لا يرضى عنه إرهاباً، من طريق العبارات الهلامية الواسعة، ومنها سلامة المجتمع، أو إلحاق الضرر بالبيئة أو الإضرار بالأحوال الشخصية»! كما لفت الباحث إلى أن البند الخاص بالمعلومات الوارد في النص قُصد منه محاصرة ظاهرة «المدوّنين ـ BLOGGERS»، التي سببت صداعاً مستمراًً للنظام في الفترة الأخيرة، بعد نشرها سلسلة من «الكليبات» التي فضحت عمليات تعذيب جهاز الأمن للمواطنين العُزّل.
ويتفق مع هذا الرأي د. وحيد عبد المجيد، نائب رئيس المركز المذكور، والقيادي في «حزب الوفد» الذي وصف العبارات الواردة في المشروع بـ«الفضفاضة»، ومنها الإخلال بالنظام العام الذي «يدخل فيه كل أنواع السلوك». ولفت إلى أن القانون «يسمح بمحاكمة كتّاب المقال أو المشاركين في الندوات السياسية، فضلاًً عن المساواة في العقوبة بين من يقوم بعمل إرهابي يقتل فيه مئة شخص، ومن يلوّح بالتخويف، وإن لم يقصد من ورائه عملاً إرهابياً، كما أن كل كلمة تقال (يمكن أن) تفسر بأنها دعم للإرهاب»! (المصري اليوم، 21/2/2008).
أما جورج إسحق، المنسق العام المساعد لحركة «كفاية»، وهي أحد الأطراف المعنية مباشرة بـ«قانون الإرهاب»، فقد أكد أن «المرحلة المقبلة، وخاصة بعد إقرار هذا القانون، ستكون مرحلة لتكميم الأفواه نهائياً، ولن ينجو أي معارض من الاتهام المباشر بالإرهاب، فهذا القانون وضع لمحاكمة المعارضين السياسيين، ولإسكات المعارضة»، فيما طالب المستشار علي جريشة، القيادي في جماعة الإخوان الرئيس مبارك بـ«هدنة مع الإخوان المسلمين مدتها عشر سنوات، يضمن فيها الإخوان للنظام عدم التعرض له تعرضاً يهزه أو يسيء إليه، في مقابل أن يضمن النظام للإخوان حرية التعبير وحرية الحركة الظاهرة تماماً، وفي خلال هذه السنوات العشر إن وجد النظام الإخوان صادقين، فلتتحول الهدنة إلى حلف، وإن وجدهم غير صادقين فلا يلومه أحد في ما يتخذه ضدهم».
وأما مجدي الجلّاد، رئيس تحرير جريدة «المصري اليوم» التي فجرت القضية بنشرها مشروع القانون قبل عرضه على مجلس الشعب لـ«سلقه» كالعادة، فقد علّق، متهكّماً، على تصريحات الدكتور مجدي راضي، المتحدث الرسمي باسم مجلس الوزراء، التي قال فيها «إن مشروع مكافحة الإرهاب لم يتبلور بعد»، فكتب: «إن تصريح المتحدث الرسمي، الذي جاء تأكيداًً لما نشرناه، قد تضمن عبارة خفيفة الدم: «لم يتبلور بعد»، فهذا يعني أن علينا انتظار «البلورة». وحتى ندرك معنى الكلمة وخطورتها، بحثت عنها في «المعجم الوسيط»، فوجدت التالي: بلوره أي جعله بلورات... وبلور المسألة أو الفكرة... أي استخلصها ونفى عنها الغموض أو الفضول. إذاً فمهمّة «مطبخ قانون الإرهاب» الآن هو توضيح المواد والعقوبات التي نشرناها، أي تحديد الذين سيدخلون السجن بالاسم. أما الذين سيعلقون على المشانق، فسوف تتم «بلورتهم» قبل الإعدام... وقطعاً سوف يسألهم عشماوي «مُنفّذ حكم الإعدام»: نفسك في إيه قبل «البلورة»!
* عضو مؤسّس لحركة «كفاية» المصريّة