يسار أيوب *مما لا خلاف عليه، أن المقاومة بمختلف تجليّاتها هي حقّ مشروع يمارسه الشعب (أو فئة منه) في وجه الاستبداد أيّاً كان مصدره، احتلالياً كان أو ديكتاتورياً، أجنبياً أو محلياً. والمقاومة تتميّز بكونها حالة استمرارية مرتبطة بوجود المسبّب الرئيسي، وممارستها حقّ للفئات المتضرّرة وواجب عليها. وفق هذه الفرضية (المقاومة في كونها حقاً) يمكن القول إنّ الاستبداد هو المولّد الأساسي للمقاومة بما هي نقيض له، وبالتعبير الماركسي كلّ ضدّ يحمل في بذوره ضدّه ويخلق نقيضه معه، وحركة صراع الضدّين، بالضرورة التاريخية، ستنتج شكلاً أرقى من الاستبداد ومقاومته معاً، وباعتقادي أنّه (أي الشكل الأرقى) شكل الدولة الضامنة لكلّ مواطنيها.
بيد أنّ اختزال فكرة كليّة المقاومة وشموليّتها واستمراريّتها إلى شكل واحد لها هو «المقاومة المسلَّحة»، وفي أحسن الأحوال «مقاومة مسلَّحة» تستند إلى دعم جماهيري، ينقلها من مكانة الوسيلة إلى مصاف الهدف، وهو ما سيحيطها بهالة الهدف الأساسي ذاته، ويمنحها صفة «التقديس» المستمدّ من قدسية الطموح الأصلي، ويرفعها فوق جميع أشكال المقاومة الأخرى العديدة والمجدية أيضاً، وبالتالي ضرب مشروعية جميع الأشكال الأخرى على حساب تعزيز شرعية شكل واحد فقط، مع الإقرار بإمكان ممارسة جميع الأشكال معاً. إنّ «المقاومة المسلَّحة» كشكل وحيد من بين أشكال المقاومة لا بدّ لها أن تتّخذ صفات تتعامل مع «قداستها» و«قداسة سلاحها» في محاولة لترسيخها في الوعي الجمعي للمجتمع. وستظهر عندها عبارات من قبيل «السلاح الخلاص» و«الطاهر» و«الشريف» و«المقاوم» و«النظيف» إلى ما هنالك من هذه الصفات التي تهدف إلى جعل السلاح والمقاومة المسلَّحة متعالية عمّا سواها. وبالتالي فإن حامله لن يكون سوى السلاح ذاته، أي المقاوم، المخلّص، الطاهر، الشريف...
وهذا ما حدث بعيد انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة عام 1965 وبعد بدء العمليات العسكرية الفلسطينية الأولى التي كانت، رغم محدوديتها وضعف فعاليتها، ترسيخاً لسموّ السلاح كنقيض أساسي للاستبداد من جهة، ولجميع أشكال المقاومة الأخرى من جهة ثانية. وبالتحديد تلك التشكيلات السياسية التي لم تُكَوَّن استراتيجيّتها على أساس الكفاح المسلَّح ومركزيّته.
إنّ سيطرة الفصائل الفلسطينية المسلَّحة التي مجّدت العمل الفدائي، مسبوقة بتمهيد ضروري وجد ترجمته في المادّة التاسعة من الميثاق الوطني الفلسطيني بعد تعديله 1968 باعتبار الكفاح المسلَّح «هو الطريق الوحيد لتحرير فلسطين وهو بذلك استراتيجية وليس تكتيكاً»، بالإضافة إلى الانتصار في معركة الكرامة 1968 بعد إغفال دور الجيش الأردني لمصلحة الفدائيّين الفلسطينيّين، جعل من الكفاح المسلَّح بشكله الفصائلي «ضرورة حتمية» للوصول نحو هدف التحرير، واختلط الهدف بالوسيلة على الأقلّ من خلال شعار «كلّ السلطة للمقاومة» الذي رُفع في الأردن أو من خلال المعارك الطاحنة التي خاضتها الثورة الفلسطينية في الأردن ولبنان بهدف الحفاظ على ذاتها بكونها ثورة.
وهذا الخلط عمل في مرّات كثيرة على حرف البوصلة عن مسارها باتجاه الهدف الحقيقي، وخصوصاً حين كان المقاتلون الفلسطينيّون يُستَدعَون من خطّ المواجهة مع العدوّ الأساسي «إسرائيل»، من أجل تعزيز الجهد الحربي في المعارك الفلسطينية ـ العربية، أو حتى الفلسطينيّة ـ الفلسطينيّة. ورغم مرارة الحرب في لبنان، إلا أنّ «المقاومة الفلسطينية» استطاعت الحفاظ على سلاحها بعد دفعها ثمناً غالياً لذلك، واستطاعت استعادة ذاتها كحالة صراعية في مواجهة الكيان الصهيوني، الأمر الذي استدعى تدخّلاً إسرائيليّاً كبيراً بحجم اجتياح كلّ لبنان في عام 1982، وصولاً إلى محاصرة العاصمة بيروت لمدة ثلاثة أشهر، ومن ثم احتلالها لتضع حدّاً للوجود العسكري الفلسطيني المسلَّح.
إنّ غياب أشكال المقاومة الأخرى عن ساحة الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي جعلت من السهل نسبياً على العدوّ تحقيق نصره في 1982. حيث، مثلاً، لم تشهد الساحة الفلسطينية في الداخل ما يمكن تسميته أعمالاً مجدية تستطيع تخفيف الجهد العسكري الصهيوني في لبنان، ولم تقم في العالم العربي (باستثناء التجمّعات الفلسطينيّة) كلّه تظاهرة واحدة تندّد بالغزو، بل العكس كان الهمّ الشعبي العربي السائد في ذلك الوقت بطولة كأس العالم في إيطاليا. وخرجت «المقاومة الفلسطينية» نهائياً من ساحة الصراع الفعلي مخلية المكان الذي حازته في لبنان لجبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، ومن ثم المقاومة الإسلامية وحزب الله.
يبدو أنّ «حماس» في هذا اليوم تكرّر نفس تجربة حركة المقاومة الفلسطينية، مع استثناء انطلاقها من فضائها هي لا من فضاء غيرها. فالمتتبّع لاستراتيجية «حماس» يجد عندها هذا التركيز الكليّ على جدوى الكفاح المسلَّح أو بالمصطلح الإسلامي «الجهاد». وعلى الرغم من انبثاق الحركة من رحم الإخوان المسلمين المعروفين بابتعادهم عن مفهوم «الجهاد المباشر» لمصلحة مفاهيم «الدعوة» و«البناء» وإقامة «المجمع الإسلامي» إلا أن «حماس» ابتعدت عن منطلقات عمل التنظيم العالمي للإخوان المسلمين بإعلانها الجهاد ضدّ محتلّي الأرض، وفي ذلك ما يبرّره بعد بداية الانتفاضة الأولى في شهر 12 من عام 1987 التي فُهِم منها إمكانية موجودة لـ«م. ت. ف» بسحب البساط من تحت أقدام «المجتمع الإسلامي» الذي حاول تعزيز حضوره الجماهيري من خلال العديد من المشروعات الاجتماعية التي تمسّ حياة المواطنين بشكل مباشر، من دون الالتفات إلى مسألة مقاومة الاحتلال طوال أكثر من عشر سنوات. فالحال هذا دفع «المجمع» لإعلان بداية حركة «حماس» ذراعاً مقاومة لبدء العمل المناهض للاحتلال، وكان لا بدّ من الانتظار ثلاثة أعوام من أجل إعلان «كتائب الشهيد عز الدين القسام» ذراعاً مسلَّحة للحركة. وفي محاولتها تعزيز شرعيتها و«شرعية سلاحها» نجدها (أي حماس) في أحاديث عدد غير قليل من قادتها يقرّرون بأثر رجعي أن بداية «حماس» كانت قبيل بدء الانتفاضة الأولى لا بعدها، وذلك من أجل إقناع الجمهور بأنها لم تكن مجرد «ركوب موجة»، بل كانت استراتيجية كامنة في «المجمع» ضدّ الاحتلال من قبل الانتفاضة ذاتها.
في استراتيجية «حماس» لا مجال إلا «للسلاح»، وقدسيته من قدسية القضية ذاتها بإضافة بعد جديد لم تلحظه الحركة الوطنية الفلسطينية سابقاً، وهو البعد الديني، وبذلك فسلاح «حماس» يعتمد قدسيتين، دنيوية ودينية، من هنا نفهم التركيز على المفردات الخطابية لفترة «حماس» ومحاولتها ترسيخ نمط خطابي يغاير، إلى حدّ ما، ما كان سائداً في مرحلة ما قبلها فتحل «العملية الاستشهادية» محلّ «العملية الانتحارية» و«المجاهد» محلّ «المقاوم أو الفدائي» في محاولة منها لإعطاء حركتها بعداً جديداًرغم امتلاكها جوهر ما كان سائداً، وهو «المقاومة المسلَّحة»، وغياب أو تغييب أشكال المقاومة الأخرى. وبهذا فالجهاد مطلوب لذاته، ولتحرير الأرض، والشهادة مطلوبة لذاتها، عدا كونها ثمناً لا بد منه لرحيل المحتل، والشهداء في «أعلى عليين» إضافة إلى أنهم خالدون في ذاكرة الشعب. مع أن الفعل هو ذاته: مقاومة مسلحة تتضمن في مسارها الصراعي مع إسرائيل وقوع قتلى من الطرف الفلسطيني. غير أن ما يمكن اعتباره الأسوأ في عملية إبعاد جميع أشكال المقاومة لحساب المقاومة المسلحة في حالة «حماس»، هو أن «حماس» تحرم ذاتها إمكان مراجعة المنهج والطريقة، فكيف يمكن مناقشة ما هو «مقدّس»؟ ومن هنا نفهم أن الحركة الإسلامية، رغم القناعة الكبرى في صفوفها وصفوف الفلسطينيين، أن الصواريخ الفلسطينية ما هي إلا وخز إبر مقارنة بما يمارسه الإسرائيلي، وأن من الضروري اليوم إجراء مراجعة شاملة تتناول جدوى الصواريخ الفلسطينية والعمليات الانتحارية التي أصبحت نادرة جداً، بل وضعيفة التأثير كما حدث أخيراً في ديمونا، بل وجدوى «المقاومة المسلَّحة» برمتها في ظلّ عجز عربي شامل، ونظام دولي تقوده أميركا، وضرورة جعل «الجهاد المسلَّح» جزءاً من استراتيجية شاملة في المقاومة لا كلّ الاستراتيجية. رغم هذه القناعة فإن «حماس» لا يمكنها ضمن منظومتها الفكرية الحالية المستندة إلى تراث الحركة الوطنية الفلسطينية ذاته إلا أن تقرّ باستحالة هذه المراجعات وبالتالي بوجوب استمرار الصواريخ تعبيراً عن «قدسية المقاومة المسلحة» وعن «قدسية السلاح وحامله».
* كاتب فلسطيني