نسيم الخوري *هل نخرج في لبنان من الكلمة إلى البندقية؟ ترتفع التصريحات والخطب النارية في لبنان الدائر حول نفسه مثل حجر المطحنة. لا هو قادر على طحن هذا الكمّ من الشتائم والبذاءات بين السلطة والمعارضة على السواء، ولا هو قادر على انفجار جديد يعيد مشاهد الحروب التي خبرها وعجنها وخبزها وأكلها اللبنانيون بمعادلات مختلفة داخلية وإقليمية ودولية.
صدّقوني، كادت السياسة في لبنان أن تصبح عيباً! لا، أصبحت عيباً حقيقياً يقفز لبنان معه من الكلمات التي يفترض أن تذوب في الفم إلى الكلمات المشحونة بالدم.
نعم بتنا نتلمّس الدم في أفواه السياسيّين يرقصون بلبنان على إيقاعات قمّة التشظّي العربي في دمشق، وهدير البوارج والمدمّرات، وتدمير الجبل المشتعل في غزّة، ورياح الحروب الدائرة حول إيران، والخروقات والتوغّلات الإسرائلية المستمرّة في الجنوب أمام جروح حزب الله المنتصرة والتي ما زال عماد مغنية طريّاً فيها، وارتجاف طواقم السفارات العربية والدولية، وتعثّر القوات الدولية وتلعثمها... ما يجعل العيب أفضل من الموت بالطبع. لكنّ انسداد الأفق يضاعف الخوف، فيبدو لبنان صبيّاً عنيداً يمشي وحيداً في ظلام، ولشدّة خوفه يغنّي ويشتم ويرفع صوته طلباً لمؤانسة الضوء.
فخلافاً لثقافة الصبر والدماثة والبسمة المحمرّة الخدّين التي كان يمتصّ بها سياسيّو الأمس منتقديهم، يبدو لبنان، اليوم، في خطب بعض السياسيّين وأنصارهم الكثر والمنتفعين، لساناً مسلولاً بالبذاءة والإساءة والتجريح والسباب والشتائم والتحقير وتهشيم الآخر، ورفضه وتبخيسه، وجعله موضوع نقد وتسخيف واستهتار وتعنيف. ويرتفع الكلام حافلاً بالأكاذيب، والتحريض والافتراءات والنميمة والشائعات «وتركيب المقلة» و«جلسات القفا» و«نتف الفروة» كما يُقال في العامية. وكأنهم لا يقطنون في السرايا والقصور، بل في الغابات والوعر، محكومين بالغريزة ومنقادين للانفعالات والهواجس التي ليست سوى من علامات الانهيار الكبير في البنيان السياسي والوطني والأخلاقي اللبناني، وربّما من علامات تجدُّد الانهيار اللبناني الكبير!
تعدّ النمائم والشتائم قنوات اتّصال وسخة لتمرير الرسائل المختلقة المركَّبة، وتحويلها إلى ما يشبه الحقائق، وخصوصاً عند نشرها أو بثّها، إذ يتمسّك بها الناس ويتناقلونها حججاً ظهرت في وسائل الإعلام. والمعروف أنّ وسائل الإعلام، وخصوصاً الشاشات، تؤلّف سلطات هائلة تضاهي، لا بل تتجاوز مجمل السلطات التقليدية التي أدمنت عليها البشرية خلال القرون الطويلة. وغالباً ما تكون الكلمة أو الكلمات، أدوات تثير عداوةً بين اثنين وتذكيها، وتملأ القلوب غيظاً وحقداً وسخطاً، وتمثّل أرضية مناسبة وواسعة لرفض الآخر وقهره، ولربّما تهديده بالقتل أو قتله أو إلغائه، ممّا يشيع الفوضى والفتن والثورات والحروب التي يترقبها اللبنانيون، اليوم، بخوف عظيم.
ليس من همٍّ في الساحة اللبنانية، إذاً، سوى البغضاء والتشويش والانقسام وتعكير الحياة اليومية، وتعرية الزعماء وإرباكهم أمام مناصريهم وعائلاتهم وأبناء قبائلهم الطائفية أو العشائرية أو الحزبية، إلى درجة بات فيها العديد من اللبنانيّين ينفرون من السياسة والسياسيّين والشاشات في حلقاتهم. ويكاد المراقب يحتار بين أن تكون هذه الظاهرة لعنة في السياسة، أصابت مقتلاً من لبنان وأهله، أو لعنة في وظائف الإعلام ووسائله المتشظّية، وأخلاقيّات الإعلاميّين المتنابذين فوق زجاج السياسيين المهشّم، يبسطون كسر الزجاج في هذا الوطن الصغير بما تفوق مساحته عالماً من القيل والقال والحسد والفساد!
أليست النميمة هي الكبيرة الثالثة والأربعون في القرآن الكريم (سورة القلم، الآيات 10ــــ13)؟ أليست هي الوجه الآخر للغيرة كما رآها سيغموند فرويد، ولأنّ الإنسان يغار لأنه يحبّ النموذج الذي يمتلك نقيضه، فهو لا يستطيع التماهي معه أو الوصول إليه بسبب شعوره المرضي بالنقص، وأفضل من عالج الظاهرة كتاب صدر بالفرنسية، عنوانه «هؤلاء المرضى الذين يحكموننا‍‍» ينزل على لبنان حفراً وتنزيلاً!
تأتي كلّ هذه التراكمات، من الكلام البذيء الذي قرفه اللبنانيون، فتجد من يبرّره أو يتحمّس له، حيث يقولون إنّه «لا دخان من دون نار»، وحيث لا تنعر السكاكين إلاّ إذا كانت محشورة تحت الإبط. هكذا إذاً، وكأنّ السياسيّين المقصودين بالنمائم والشائعات، أكياس من خيش أفرغت من الشعر والأدب والمحاصيل والمسامرات والنوادر، وجرّدت من الآداب واللياقة وحسن التصرّف! فما هي تلك القيم التي تعلق بأجيالنا عن عظماء وطنهم وأبطال السياسة فيه؟
قد لا نغالي، إن قلنا، إن نسق القيم المتوارث في الشاشات، ينهار إلى درجات سفلية. وباتت فيه الهوّة عميقة بين الأهل وأبنائهم وبناتهم، وتكاد تسقط بشكل كامل، صورة الأب أو الأم أو المرجعية في بيوت الطين أو في القصور، كما في لبنان الساحة، الذي يبدو يتيماً هجيناً، ليس له أب له يحميه، ولا قيم تؤمّن نموّه وتطوّره وتكيّفه.
أليست هذه من سمات عصور الانحطاط، والتفكّك الاجتماعي والسياسي، وانهيار السلطات في مقاماتها العالية المفترضة تحت ثقافة النمّامين والشتّامين؟
أليست النميمة نوعاً من الوشاية، وممارسة السادية بتهشيم صورة شخص أو زعيم أو حزب في نواياه وأفعاله وحضوره، بالارتكاز على الكذب والاختلاق والنكات، وتشويه الحقائق عن طريق الكذب بالحذف، أو الكذب بالإضافة، إلى درجة تصبح فيها الكلمة فتيل فتنة تخرّب وطناً؟ وبين القيل والقال، يثبت الشتّام والنمّام القنابل فوق خصور الكلمات من هنا وهناك، لأنّ من نمّ لك تحقيقاً للحظوة وجذب الانتباه، أو ميلاً منه إلى القدرة على التوقّع والاستباق، أو كسباً للمال والمركَّز والجاه، نمّ في الوقت نفسه عليك تحقيقاً للبهتان والعدوان، وخلق التّهم الباطلة، وتلمّس الفاعلية لدى الجماعة، وتوليد ردود الأفعال والندوب النفسيّة والخلل الاجتماعي أو الانفجار؟
والملاحظ، أنّ النمامين من أهل القرار في لبنان من السياسيّين والحواشي والمستشارين والإعلاميّين، يلجأون إلى هذه الأساليب في اختراع الحيل لاضطراب في تواصلهم وحواراتهم وتشاورهم المباشر، أو لاتصالاتهم القاتلة عبر وسائل الإعلام، أو لضعف في نفوسهم لا يتوازن إلّا بإفساد العلاقات ما بين أفراد المجموعة الواحدة، وكلّ هذا مصحوب بالحقد والغيرة والثرثرة والتسلية وتقويض السلطة وتوسيع فكرة المؤامرة وترسيخها. وهم يصلون في حماستهم إلى حدود التخريف Fabulation، أي تزوير الوقائع والمبالغة الحادّة بهدف إثارة الإعجاب والثقة ممن هم حولهم، ومن ثمّ تصديق لكلام أساسه تفريغ لشحنات من العدائية يصبح فيها الخصم موضوعاً مستباحاً للتجريح.
صحيح أن النميمة كعنوان عام لما نحن فيه تكاد تختلط بالشائعة، وصحيح أنّها تنفيس عن المكبوت الذي لا يمكن كتابته فردياً واجتماعياً، وصحيح أيضاً أنها أداة استقراء للواقع السياسي اللبناني المتراجع الذي نشهده ونعيشه، بدليل وجودها الفعّال والمؤثّر، لكن الصحيح أيضاً في موقع الشكوى أن لبنان ينقسم بين انقسام النمّامين الذين يحمون أنفسهم من النمامين الآخرين أولاً، وللاستخبار عن أسرار الآخرين ثانياً، بحيث غدت هذه الثقافة السياسية حاجة لبنانية لتغطية عجز، لا بل متنفساً إسقاطيّاً يحتضنها المجتمع بالرغم من تذكيتها التعصّب ضدّ الآخر المختلف دينياً أو اجتماعياً أو ثقافيّاً. وبالرغم من تقسيمها المناطق وتشجيعها على التناحر والتعصّب المناطقي والطائفي، صارت كأنها، للأسف، طريقة حياة وتأمين للاستمرارية في تحطيم الآخر والعيش على أنقاضه.
الخشية أن تكون الكلمة عتبةً للحرب أو سجّادة لها بدأ فلشها فعليّاً في لبنان والمنطقة!
* كاتب وباحث لبناني