ناهض حتر *عادت أشباح وصفي التل تحوم في فضاء الوجدان الأردني. لعلّه القلق من التطوّرات الإقليميّة؟ أو لعلّها قسوة الليبرالية الجديدة ـ وقد استحكمت وأغلقت الآفاق الاجتماعية على أبناء الحراثين؟ أو لعلّه الحنين إلى أردن الخيل والليل؟ أو ـ ربما في الجانب الإيجابي الذي أرجّحه ولا أقتصر عليه. لعلّه تعبير غامض عن النهضة الكامنة في الوطنية الأردنية ومشروعها التاريخي المقبل؟ لعلّه اليأس أو الأمل؟ ذكرى الماضي أو صهيل المستقبل؟ اللجوء إلى قوّة الأب وحنانه أو اكتشاف الذات في لحظة الهجوم على الآتي؟
لذا قلت: أشباح وصفي، ولم أقل شبح... في استعادة لقراءة جاك دريدا لـ«أشباح ماركس» عام 1994. هل كانت أشباح ماركسوقتذاك أشباح موت الاشتراكية أم صعودها الآتي؟ لقد بيّن العقد الأخير كم أنّ الإجابة معقّدة: فالاشتراكية القديمة ماتت بالفعل، لكنّ اليسار يولَد من جديد في الحركات الاجتماعية والبيئية والمناهضة للعولمة، وفي نهضة اليسار الأميركي اللاتيني الجديد، وفي المقاومات الوطنية ضدّ الإمبريالية الأميركية الصهيونية.
بالنسبة إلي كماركسي وكوطني أردني في الآن نفسه، فإنّني خضت ـ وأخوض ـ معاناة فكرية وحياتية في مغامرة مفتوحة على احتمالات صعبة، ووسط سوء الفهم والالتباسات، من أجل بناء المنظومة الأيديولوجية لليسار الأردني الجديد. «أردني» هنا تشير إلى ما هو أكثر من الانتساب، بل إلى مشروع وطني إنساني يستلهم تاريخ الأردن وقيمه المساواتية الديموقراطية.
هكذا، تأتيني أشباح وصفي وأشباح ماركس معاً، تهبط بي أحياناً، إلى قاع الكآبة أو ترتفع بي إلى السماء. فهل هي مصادفة أن يأتي إليّ صديقي، حبيب الزيودي، في واحدة من لحظات وجدي، ليقول لي قبل السلام: أكتبُ قصيدةً عن وصفي... جئتك بالأبيات الأولى منها، وقرأ واقفاً:
حطّنْ رفوف الحجلْ، رفاً ورا رفِ
وخيلٍ أصايلْ لفَتْ صفاً ورا صفِ
أقولْ يا صاحبي يكفي عَتَبْ يكفي
ويا مهدّبات الهَدَبْ... غنّنْ على وصفي
شمس الحصايدْ بالضحى لوّنتْ لونو
ويتوقّد الجمر يومِنْ تومِضْ عيونو
نادى النشامى: يَرّبعْ... حَذِركو اتْهونو
والهدب هو الشراشيب البيض التي تنسجها المرأة على أطراف شماغ زوجها أو أخيها أو حبيبها. ولذلك يكون الشماغ الأحمر المهدّب، ثميناً وشخصياً وإشارة مكتظّة بعواطف ومكانة وشرف المرأة التي هدّبتها.
شئتم أم أبيتم: هذه هي صورة وصفي التل عند الأردنيّين، من أقصى اليمين العشائري إلى أقصى اليسار. إنّه رمز الوطنية الأردنية الممنوع ـ هل هي مفارقة؟ ـ الممنوع رسمياً، في الأردن، حيث تحتكر العائلة المالكة، المستوى الرمزي كلّه. لكن، وعلى رغم الحظر الرسمي، فإن رئيس وزراء الأردن الذي اغتالته «السي آي إيه» في القاهرة، عام 1971، لا يزال هو رمز العداء لإسرائيل في وعي الأردنيّين، ورمز مشروع الدولة الوطنية، ورمز القطاع العام، ونهضة الريف، والتعليم الجامعي المجّاني، والخدمات الطبية، ودعم السلع والخدمات الموجهة للفقراء… هو نفسه رمز العداء للرأسمالية، محبّ الشعب…الذي كان له أصدقاء كثر من الفلّاحين والرعاة وأصحاب الدكاكين، يجلس عندهم ـ وهو رئيس الوزراء ـ على صندوق خشبي، ويشرب الشاي الغامق الحلو، ويجادلهم في الشؤون العامة، وفي تقنيب الدوالي، والحراثة، وقطف الزيتون.
لا توجد عائلة أردنية ليس لديها ذكرى من وصفي: هنا جلس على جاعد، أو شرب اللبن المخيض، أو أكل قلاية البندورة والبصل والفلفل الحار، أو اشتبك مع موظّف، صغير أو كبير، على هذا التفصيل أو ذاك، مستخدماً الحجّة العنيفة، لا الإجراء الإداري، معتذراً، في الليلة نفسها إذا ما تبيّن أنه على خطأ.
كانت قضية المواجهة مع إسرائيل، وهزيمتها، هي قضية حياته. وكان مؤمناً بأن إعادة تنظيم القوّات المسلّحة الأردنية على أساس الانضباط العسكري في التنظيم وأسلوب حرب العصابات في القتال، من شأنها أن تضمن النصر على الغزاة. وهذا ما مكّن الجيش الأردني في معركة الكرامة 1968 من صدّ الغزوة الإسرائيلية، وإدامة حرب استنزاف على الجبهة الأردنية ظلت حتى السبعين، وكان التل يخطّط لمعاودتها عند
اغتياله.
لم يكن وصفي التل يثق بحركة «فتح». وكان يرى فيها حركة انفصالية هدفها تمزيق وحدة المملكة التي كانت تتكوّن من الضفتين، من أجل الظفر بمقعد التفاوض عن فلسطين مع إسرائيل. وكان يرى أنّ الحلّ السلمي «مجرّد أوهام»، رافضاً مبدأ المفاوضات، ومصرّاً على القتال حتى تحرير فلسطين كلّها. إلا أنّه لم يكن يؤمن بالدولة الفلسطينية. ففلسطين، عنده، هي غرب الأردن. وهذا هو سر كراهية الفلسطينيين له. وهو كان قومياً سوراقياً يرى أنّ المدى القومي مركزاً في بلاد الشام ـ حيث لعمّان عنده مكانة لا تقلّ عن دمشق، والعراق ـ حيث رأى في بغداد مركز العروبة ـ وهذا هو سرّ كراهية المصريّين له.
وصفي التل هو الذي أسّس العلاقة الاستراتيجية بين الأردن والعراق، بحيث أصبحت هذه جزءاً من أيديولوجية الوطنية الأردنية. ومن المعروف أنّ التل هو الذي قاد الحملة لاستعادة العلاقات بين البلدين عقب ثورة 1958. ففي أربعين الملك فيصل الثاني الذي قتله الثوار العراقيون، زار التل الملك حسين، واستأذنه بمواصلة الاتصال بالعراق، قائلاً إنه يتفهّم أحزان الملك بمقتل ابن عمّه العراقي، لكن «هذا العراق! هو جدارنا وعمقنا، بغض النظر عن حكّامه». وقد أثبتت السنون صحّة هذا التقدير، فظل العراق السند الاستراتيجي للأردن حتى احتلاله.
في الستينيات، عقدت الوطنية الأردنية الناهضة وقتذاك، صفقة تاريخية مع الملك حسين، على أساس التخلي له عن السياسة الخارجية ـ ما عدا الصلح مع إسرائيل ـ مقابل التخلّي للوطنيين الأردنيين، بقيادة وصفي التل، عن السياسات الداخلية. ويدين الإنجاز الأردني كله إلى تلك الفترة التي أسّست فيها حكومات التل نظاماً اقتصادياً ـ اجتماعياً ـ ثقافياً، هو نسخة أردنية من الناصرية، ابتداءً من القطاع العام، مروراً بالإصلاح الزراعي، وليس انتهاءً بالفولكلور الشعبي!.
غير أنّ النظام الذي بناه وصفي التل، كان مميزاً عن الناصرية، بأنّه بدأ عهده بالإفراج عن الشيوعيّين والمعتقلين السياسيين، وحرق ملفّات المواطنين الأمنية، والاستعانة بخبرات الحزبيّين في البناء الوطني.
يفتقد الأردنيون اليوم وصفي التل، رمز السياسات الاجتماعية الوطنية، ورمز الدولة، ورمز العداء لإسرائيل.
* كاتب أردني