صباح علي الشاهر *في بدايات الاحتلال، صرّح مارتن أنديك على شاشة تلفزيون عربيّ، بلغة إنكليزية واضحة لا تقبل التأويل، وبترجمة عربية دقيقة، أنّه ليس أمامنا من خيار سوى استعمال الوصفة الإنكليزية المجرّبة: «فرّق تسد». قالها بكلّ صلف ودون أن يغلّف كلامه بحذلقة دبلوماسية. وقتها كانت الإدارة الأميركيّة تعيش نشوة نجاحات سياسة «الصدمة والترويع»، وكان قادتها وسياسيّوها يتلذّذون بتطبيق هذه السياسة، ليس فقط في الميدان العسكري، بل حتى في الميدان الإعلامي. كان المتصهينون الأميركيّون، وأنديك واحد منهم، يتلذّذون بترويع العرب بقنابلهم اللفظية هذه، التي هي الوجه الآخر للقنابل التي دكّت أجمل ما في بغداد. وكان المتصهينون العرب من جهة أخرى يحاولون عبر وسائل تدرّبوا عليها جيّداً، دكّ جدار الممانعة والتحدّي. هدفهم إحداث صدمة في الوعي العربي وترويع الذين ما زالوا يحسبون أنهم يمكن أن يرفعوا رؤوسهم وأصواتهم بوجه أسياد المنطقة بلا منازع، عبر قاموس مدروس تماماً، فذاك يقول دونما خجل، قولاً ما خطر ببال أرذل رذيل، وهو يصف نشوته برؤية القنابل التي تتساقط على بغداد، «كنت أستمع لأجمل سمفونية في حياتي!»، وآخر يكتب «لا يمكن أن يكون العراقي نذلاً إلى هذا الحدّ، بحيث يوجّه بندقيته للجندي الأميركي المحرّر!». وبالترافق مع نجاحات «الصدمة والترويع»، انتقل المتصهينون الأميركيّون لتنفيذ أشدّ السياسات همجية ولؤماً على أرض العراق المنهوبة، وعلى شعب العراق الجريح، ألا وهي سياسة «الفوضى الخلّاقة». وبدا العراق كأنّه حقل تجارب لسياسات الإمبريالية الأميركيّة الطامحة للتحكّم بالمنطقة ومن ثمّ بالعالم.
ربما مرَّ تصريح أنديك مرور الكرام، وقد يكون البعض عدّه مجرّد فلتة لسان، وخصوصاً أولئك الذين لا يعرفون حقيقة وطبيعة مُطلق التصريح. وأزعم أن العراقيّين الذين يعرفون طبيعة مجتمعهم العراقي، لم يعيروا هذا التصريح أيّ اهتمام. فلم يكن العراقي يتصوّر، حتى مجرّد تصوّر، أنه يمكن للعراقيّ أن يقف بوجه أخيه العراقي، لا لشيء إلا لأنه يختلف معه في المذهب الفقهي. مثل هذا الصراع لم يحدث في العراق حتى في أشدّ الظروف تخلّفاً. يُضاف إلى هذا أنّ الطائفيّين من الطرفين لم يكونوا سوى قلّة متخلّفة ومعزولة، لا تأثير لها ولا شأن.
تلقائيّاً، ورغم عنف الصدمة وشدّتها، فقد تظاهر العراقيّون رافعين شعار «إخوان سنّة وشيعة، هذا الوطن ما نبيعه»، خرجت التظاهرات من أكبر حاضرة شيعيّة في بغداد (الكاظمية) لتلتقي بجماهير أكبر حاضرة سنية (الأعظمية)، ولتسير التظاهرة الموحّدة أمام حراب المحتلّ. لقد كان هذا التحرّك العفوي ردّاً عمليّاً على ما أدركه العراقيّون بالفطرة من مخطّط يروم المحتلّ تجريبه على شعب لم يعرف طيلة تاريخه الموغل في القدم سوى التسامح والتعاون بين طوائفه ومذاهبه.
وبالترافق مع البطش الذي لا حدود له، والتعذيب والإذلال اللذين أصبحا حديث الدنيا كلّها، اقتنصت قوات الاحتلال أولئك الذين هم على استعداد لخدمة الأسياد الجدد، وأضافتهم إلى رصيدها المعدّ مسبقاً، سواء ممّن جاؤوا معها أو ممّن التحقوا بها في ما بعد، طفقت عبرهم ومن خلالهم تعمل على فرض واقع يتنافر كليّاً مع طبيعة التاريخ والجغرافيا العراقيَّين. في ليلة وضحاها أُنشئت آلاف المنظّمات المهنيّة، وعندما نقول آلافاً فنحن لا نبالغ، منظّمات غرست في ثنايا الوطن العراقي، مبثوثة في المدن والقرى، للنساء والشباب، وحقوق الإنسان والحيوان، والبيئة، والديموقراطيّة، أسموها زوراً منظّمات المجتمع المدني، تكاثرت تكاثراً سرطانيّاً، لا عمل لها سوى قبض الدولارات وتجميل وجه الاحتلال القبيح، والادعاء بأنّه تحرير لا احتلال. لقد تمّ شراء الذمم المعروضة للبيع، وكان بول بريمر ينفق مليارات الدولارات التي كانت تحملها طائرات خاصة، قيل إنها كانت أكبر عملية نقل للأموال في التاريخ. لقد حوّلت مليارات بريمر العراقيّين الذين كانوا يعيشون على الإعانة الاجتماعية في بلدان الغرب إلى محدَثي نعمة يتلاعبون بالملايين، في حين أفقر الشعب على نحو ساحق. وقد ترافق هذا مع هجوم المأجورين والمرتزقة، الذين جُعلوا أسياد العراق والمتحكّمين به وبأرواح أبنائه. لقد استُبيح العراق، وقُيّض للعالم المصدوم رؤية وجه الديموقراطية التي تروم أميركا تصديرها إلى شعوب الشرق بلا رتوش.
وبتعيين جون نيغربونتي سفيراً لأميركا في العراق، طوّر المحتلّ أسلوبه أو انتقل به إلى درجة أعلى، إذ لم يعد أبناء العراق وبناته يقتلون على يد قوات الاحتلال فقط. طفق المجهولون، مدعومين بالخدمات اللوجستية العالية المستوى، بتفجير المراقد والكنائس والجوامع والحسينيات، واستُهدفت القوى الحيّة من الشعب العراقي، الطبقة الوسطى تحديداً، من علماء ومهندسين وأطبّاء وأساتذة جامعات وأدباء ومفكّرين وقادة عسكريّين، وإداريّين. لقد احتطبت غيلة وغدراً خيرة العقول العراقية أو أُجبرت على الهروب خارج الوطن. وأصبح الموت المجّاني يأتي الناس من حيث لا يحتسبون. وفي عهد هذا الرجل، بدأ القتل على الهوية، واتّسع نطاق التهجير، وبدأنا نسمع النبرة الطائفية من جناحي الطائر العراقي، وسرعان ما اعتُمد الطائفيّون من الجانبين ممثّلين للعراق الجديد، جنباً إلى جنب مع الممثّل الإثني الآخر (الأحزاب الكردية)، بعد تمرير خديعة ما سُمّي بالعمليّة السياسيّة.
وبالترافق مع الفساد والإفساد، عُطّل أي مظهر سويّ من مظاهر الحياة الاجتماعية. لقد اغتيلت المواطنة، فكرة ومفهوماً وممارسة.
وها نحن اليوم بعد ما يناهز الخمس سنوات من الاحتلال، على أعتاب تلاشي العراق الوطن. ها نحن بإزاء استنهاض ولاءات أخرى، كردستانية وشيعية وسنية...
هل نحن على أعتاب تقسيم العراق؟
استناداً إلى ما يجري على الأرض العراقية، نحن لسنا على الأعتاب، بل نحن في مرحلة التأسيس الفعلية لذلك. فما هي سوى خطوات ونكون أمام دول تسمّى كردستان، وشيعستان، وسنّستان، وهي ترفع أعلامها وتعقد برلماناتها وتشكّل حكوماتها.
* كاتب وصحافي عراقي