سعد الله مزرعاني *بدعوة من المكتب السياسي للحزب الشيوعي اللبناني، يُعقد في إحدى قاعات قصر الأونيسكو، مؤتمر لمجموعة من اليساريّين اللبنانيّين (في تصنيف متساهل وملتبس أحياناً). قبل ذلك بيومين عقدت مجموعة من الشخصيات، ذات الاتجاه اليساري في معظمها، مؤتمراً صحافيّاً أعلنت فيه ورقة «مبادئ لبناء الوطن والمواطن». يمكن الافتراض أن هواجس كثيرة مشتركة كانت وراء إطلاق كلٍّ من اللقاءين. يؤيّد ذلك أنّ عدداً كبيراً من الأسماء يتكرّر هو نفسه، في لائحتَي الدعوتين إلى كلا اللقاءين. ليس ذلك فحسب، بل إنّه، حتى في ورقتي الدعوتين (على اختصارهما واقتصارهما على العناوين بالنسبة إلى واحدة منهما، وعلى الشأن الداخلي بالنسبة إلى الثانية)، هناك تقاطع سياسي بيِّن بشأن مسائل أساسية في الوضع الداخلي. ذكرنا أنّ اللقاء اليساري قد دعا إليه المكتب السياسي للحزب الشيوعي اللبناني. أما اللقاء الثاني، فقد نشط في إطلاقه وإعداد ما أنجز من مراحله، مسؤولون في «حركة الشعب» و«التنظيم الشعبي الناصري»، إلى عدد من الشخصيّات التي عمل بعضها سابقاً في «التجمّع الوطني للإنقاذ والتغيير». لا شكّ في أن غياب التنسيق بشأن هذين اللقاءين أمر لافت، ولا يفسّره فقط خلاف أو اجتهاد بشأن وظيفة اللقاءين أو طبيعة المدعوين.
غياب التنسيق هذا مردّه في الواقع إلى جملة أمور:
الأول، هو إقفال تجربة وملفّ «التجمّع الوطني للإنقاذ والتغيير» على زغل (إذا لم نقل على زعل أيضاً!). يومها، أي منذ أواسط عام 2004، جرى تجميد عضوية ممثلي الحزب الشيوعي في «التجمع» دون تبرير واضح، ودون اقتراح أو تحضير بديل يساري وديموقراطي وجبهوي أفضل أو أرقى أو أفعل.
الثاني، هو ضبابية بعض المفاهيم والحدود بشأن ما هو ديموقراطي، وما هو وطني، ويساري... بحيث تبرز في عدد من الحالات تباينات إزاء ما يجب اعتماده وبلورته من صيغ سياسية وتنظيمية وتحالفية، فضلاً عن البرامج والسياسات، إلى الأولويات في كلّ الحقول أو في كلّ حقل من الحقول. وفي هذا السياق نقع مثلاً على معارضة «اليساري» بـ «الديموقراطي»، في منهجيّة أو خطّة (أو تكتيك) تفترض عدّة حلقات لصيغ العمل، منفصلة ومتّصلة في آن واحد.
والثالث، هو الانطلاق في كلتا المحاولتين من فكرة «التجميع». هذه الفكرة تفترض أنّ اليسار والتيار الديموقراطي موجودان، وعملية تفعيلهما تستدعي، بالأساس، تجميعهما في لقاء أو في مؤتمر، وفي مناخ لا يخلو من التنافس!
والرابع، هو واقع الافتقار إلى تحليل وتقدير شاملين لحجم الأزمة في لبنان وفي المنطقة، في تمايزهما وتفاعلهما وتداخلهما. ومن ثمّ، وبالاستناد إلى هذا التحليل، صياغة المفاصل الأساسية لمشروع التغيير. وفي هذا السياق ينبغي بالتأكيد تحديد الأولويات الوطنية التي يجب أن توجّه كلّ جهد سياسي وشعبي وتعبوي وإعلامي...
والخامس، أنّ خريطة الصراع والانقسام السياسية في لبنان تجتاز مرحلة معقَّدة ومتناقضة أحياناً. فمن جهة تبدو الانشطارات والاستقطابات السياسية في ذروتها. لكنّها، وهي تبلغ مثل هذه الذروة، تدفع بالبلاد حثيثاً نحو الهاوية أو الكارثة في أخطر أشكالها: من احتمال التقاتل الأهلي، إلى تضييع السيادة، إلى فقدان الدور والوظيفة، الى الانهيار الاقتصادي، الى أشكال من اليأس والتردّي الخلقي والاجتماعي والبيئي. مثل هذا الواقع المتناقض، يتيح بالتأكيد فسحة لبناء بديل وطني، يساري، وديموقراطي... بل هو في الحقيقة يلغي في الأولويات الراهنة ذلك التباين الذي يمكن أن يقوم، في ظروف مختلفة، ما بين «اليساري» و«الديموقراطي». ففي واقعنا الراهن يتّحد هذان في مهمّة واحدة، هي مهمّة استعادة الوطن من براثن التدخل الخارجي (الأميركي خصوصاً)، واستعادة الدولة والنظام من حمأة التقاسم والانقسام الطائفي والمذهبي، واستعادة المواطن من براثن القلق والضياع والجوع والهجرة والبطالة...
إنّ تحديد برنامج الأولويات الوطنية ذات الصفة الإنقاذية في ظروف أزمة لبنان الراهنة خصوصاً، هي ما ينبغي أن يبرّر في مجرى البحث عن الأدوات، بلورة تيّار تغييري ثوري، جديد. أمّا العملية التي يغدو فيها «التجميع» هدفاً قائماً بذاته (على أمل أن يؤدّي ذلك لاحقاً الى بناء المشروع والإطار)، فتبدو عملية معكوسة. إنها كمن يبحث لليسار عن مهمّة، لا كمن يبلور يساراً ودوراً ومسؤولية وإطاراً في خدمة الأهداف والأولويات الوطنية. للأسف، لا تأتي هاتان المحاولتان كامتداد لنقاش مستمرّ ومثمر، كما كان ينبغي أن يحصل. فالمساهمات في هذا الحقل شبه معدودة. ومعدومة بالتداعي، محاولات تقويم التجارب السابقة، فضلاً عن إعمال النظر والفكر والتحليل فيما يجب اعتماده من مقاربات وتوجّهات وصيغ. إنّ في التراث الحديث، لجهة العلاقات بين مجموعات اليسار وشخصياته، ما هو أقرب أيضاً (فضلاً عن شبه الخواء) الى أن يكون محصّلة سلبية. فلقد أدّت تحوّلات دوليّة عاصفة، وأخرى شبيهة في المنطقة وفي لبنان، الى إحداث أزمة خطيرة في الواقع اليساري. ومن مفاعيل تلك الأزمة الضياع والتشتت والتفتت والانكفاء. وربما كان الأخطر في هذه العملية السلبية، انتقال يساريين سابقين من موقع إلى موقع نقيض. وهذا الانتقال اقترن بتخلٍّ كامل ليس فقط عن الأساليب والأشكال، بل بالأساس، عن الأهداف التي تلهم مشاريع اليساريّين وتبرّر إطلاق مثل هذه التسمية عليهم. هذه، وأمور أخرى (ممّا لم أذكر، لأن معظمها ذاتي)، تعمل في غير مصلحة انطلاقة ثابتة وواثقة لبناء مشروع وطني يساري ديموقراطي، ينهض به وينهض معه تيّار ينمو ويتّسع فيما هو يقترح على اللبنانيّين خياراً إنقاذياً متكاملاً. ورغم ذلك، لا يجوز التعامل بسلبية مع المحاولتين. قد يكون من الممكن (ويجب بذل كل الجهد الضروري لهذا الغرض) تحويلهما إلى مناسبة حوار موضوعي جاد وشامل وبعيد عن الفئوية أو الذاتية، لمصلحة بناء بديل ديموقراطي، برنامجاً وإطاراً وعلاقات. هذا البديل هو أيضاً محاولة مطلوبة، فضلاً عن أهدافها اللبنانية، على المستوى العربي. فالقوى الديموقراطية اللبنانية قد اعتادت، في عدد من المحطّات المصيرية، تقديم مبادرات ذات وقع شامل، وذات دور تحرّري وتقدمي وديموقراطي انطلقت إشعاعاته إلى المدى العربي العام. إنّ معركة التحرير والديموقراطية والإنقاذ هي معركة تقع في نطاق شامل على صعيد المنطقة. ويمثّل لبنان جزءاً ملتهباً من الصراع الدائر في المنطقة وعليها. وهو صراع طويل بالضرورة، بسبب حجم حضور وتناقض المصالح الدولية الناشطة من أجل الهيمنة وتناقضها، أو من أجل امتلاك حصّة وموقع في الشرق الأوسط ذي الثروات الهائلة والموقع الاستراتيجي الخطير.
تستطيع قوى التغيير اللبنانية، الديموقراطية اليسارية والوطنية والتحررية، أن تقول الكثير وأن تقول الأساسي بشأن مصائر لبنان والمنطقة. ويجب عليها أن تقرن القول بالفعل، والنيّات الحسنة بالمشاريع والتوجّهات المتبلورة، والرغبات الطيبة بخطط العمل والنشاط والحركة، وأن يكون للشباب دور بارز ومؤسّس في كل ذلك.
كلّ ذلك يمكن أن يبدأ. وقد يكون بدأ فعلاً، إذا ما استبطنت الجهود المبذولة عزماً مصمّماً على المراجعة وتجنب السلبيات والفئويات، والاستفادة من الطاقات والإمكانات. وينطبق ذلك على المراكز اليسارية التي فعل بعضها الكثير لكي تبقى وتستمرّ، وعليه أن يفعل أكثر من أجل أن يكون البقاء والاستمرار قادراً على الفعل والتأثير وصنع الأحداث!.
قد تطرح هذه المساهمة هنا بعض التساؤلات. والجواب أنّها طبيعية في مجرى عملية مفتوحة للنقاش حول هذه المسألة وسواها، في الحزب الشيوعي، وفي المحاولتين موضوع هذه المقالة، وما بعد هاتين المحاولتين بالتأكيد، وصولاً إلى البرنامج والصيغة المنشودين.
* كاتب وسياسي لبناني