فايز فارسإذا أردنا الدخول في العقل الأوروبي السائد في أيامنا هذه، واستشراف الخلفيات والغايات الهادفة إلى حفر هذه الهوّة التي نعانيها اليوم بين شرق «حضاري» وغرب «متحضّر»، فعلينا أن نقرأ ما تيسّر لنا من كتب التاريخ الأوروبي الزاخر بالحروب الدينيّة والنزاعات الطائفيّة التي لم تنته بعد، بل «توقفت» مرتين. مرّة بعد حصول الثورة الفرنسية أواخر القرن الثامن عشر، ومرّة أخرى بعد انتصار الحلفاء على ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية. فملوك أوروبا ورؤساء كنائسها قد دفعوا بشعوبهم إلى حروب «صليبية» مقدسة لإسقاط القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية كهدف أوّل وأساس، قبل التوسع في طموحاتهم باتجاه بيت المقدس. وغيوم الصوري مؤرخ الحملات الصليبية الكبرى يحكي لنا كيف فضّل أمراء أوروبا وفرسانها الاستقرار في بشرّي وكفرعقا والمختارة وغيرها من البلدات والقرى الشيعيّة والدرزية آنذاك، على الإقامة بين مسيحيّي هذا المشرق الذين لم يكتفوا برفضهم التعامل معهم بل حاربوهم.
ممّا لا شكّ فيه أنّ حكّام أوروبا وشعوبها يحملون في وجدانهم إرثاً ولا أثقل. من جهة، يقرّون في كتبهم ويعترفون في أفلامهم السينمائية بسلسلة الاضطهاد والقهر والعزل والاحتقار التي مارسوها في حق أبناء بلدهم اليهود الأوروبيين، لكنهم من جهة أخرى، يرفضون الإقرار والاعتراف بأنهم يحمّلون الآخرين، أي العرب، تبعات وتداعيات سلوكياتهم ومواقفهم التاريخية.
نسمع منذ سنوات رؤساء ووزراء أوروبيين ينادون بإسلام فرنسي وإسلام ألماني وآخر بريطاني كحل وسطي يقرّب بين مكوّنين اجتماعيين ثقافيين مختلفين. ما دفع بالأكثرية المسلمة المقيمة في الدول الأوروبية إلى تلبية هذا النداء، فتأسّست الجمعيات واتّحدت في هيئات وطنية مركزية لتصبح المحاور الرسمي المعتمد لدى السلطات الرسمية السياسية والثقافية. لكن ذلك لم يكن كافياً لحل المعضلات القائمة بسبب تعدد التيارات السياسية وتنوّعها في صفوف الجاليات الأجنبية المسلمة والتي تختبئ وراء شعارات دينية متشدّدة غير معتمدة في بلادهم الأصليّة، التي تشهد تطورات سياسية وتحوّلات اجتماعيّة وإن بدرجات مختلفة.
في المقابل، نرى أن الحكومات العربية والإسلامية قد أخفقت في تحقيق التغيير والإصلاح المطلوب اعتماده في إدارة الحكم في دولها والنهوض بمجتمعاتها اقتصادياً واجتماعياً واسترداد ثقة مواطنيها بدولتهم ومجتمعهم. كما أنّ العديد من المؤسّسات البحثية الفاعلة والجمعيات الصديقة في أوروبا يأمل من جميع المؤسسات والمرجعيات الدينية الإسلامية العليا صاحبة الشأن في العالمين العربي والإسلامي أن يتّحدوا ويتفقوا على تطبيق خطة عمل مشترك على المستويين الوطني والأممي، بهدف نشر ثقافة دينية إسلامية سليمة صحيحة تحفظ هذا الدين من عبث العابثين، وتنمّي لدى جميع المسلمين روح التسامح الإسلامي والقدرة على التفاعل مع الآخر في زمن الانفتاح والتواصل والتلاقي بين كل شعوب الأرض قاطبةً. إذ يكفي الدول والمجتمعات الأوروببة ما تحمله في أعماقها من تداعيات جراء «الغيتو اليهودي» في أوروبا الغربية و«البوغروم اليهودي» في أوروبا الشرقية طيلة قرون مضت. وكأنهم يطالبون القادة العرب والمسلمين بأن يؤدّوا قسطهم ويتحملوا مسؤولياتهم في إيجاد الحلول والوسائل الكفيلة بردم هذه الهوة أقلّه بين ضفتي هذا البحر الأبيض المتوسط.
على العرب والمسلمين في هذا العالم، نخباً ومؤسّسات رسمية وخاصة، المبادرة إلى الانخراط في ورشة عمل كبرى من أجل تطوير ذواتنا واستحضار ماضينا الحضاري واستلهام تاريخنا الغني بالعطاءات والإبداع والتسامح والانفتاح على جميع الحضارات الإنسانية التي تبنّيناها وطوّرناها خلال عشرة قرون، وذلك باعتراف وشهادة العلماء والأدباء والمؤرّخين والفنّانين المبدعين المعاصرين. ولا نلومنّ أحداً بعد اليوم، لأننا رفضنا سنّة التطور، فأخفقنا في تعاملنا مع العالم أجمعين.