جون لانشستر *‏تستخدَم كلمة «مهمّ» مواربةً في نقد الكتب. فهي تعني عادةً أنّ الكتاب «أعلى مستوى من الوسط بقليل»، أو «كنت في الجامعة مع الكاتب»، أو «لم أزعج نفسي بقراءته، فأطلقت عليه صفة مهم بدلاً من ذلك». وأحياناً كثيرة يمكن أن يتوسَّع معناها ليصبح «كتاباً يُرجّح أن يُشير إليه في المستقبل أشخاص آخرون يكتبون في الحقل نفسه». ولكن كتاب نيك دايفيس الذي يحمل عنوان «أخبار الأرض المسطّحة» هو كتاب مهم حقيقة، كتاب من المرجّح أن يغيّر، بشكل دائم، الطريقة التي ينظر فيها أيّ كان إلى صناعة الصحافة البريطانية. يشرح كتاب دايفيس أمراً تسهل ملاحظته والتذمر منه، ولكنه عصيّ على الفهم: سبب النحول والضمور المتزايدين في الصحافة البريطانية. ليس النحول نحولاً بالمعنى الحرفي للكلمة: فالصحف، من ناحية الشكل، هي أكبر من أي وقت مضى. ولكن يبدو أنّ مضمونها أقل مما كان في الماضي: أخبار أقل، أفكار أقل (بالمعنى المقابل لرأي)، كثافة التزام أقل، مقدار أقل من الوقت لاستكشاف الأمور. يتمحص دايفيس في كل هذه المسائل، فيؤكد أنّ انطباع النحول هو صحيح، ويشرح كيف حدث ذلك ولا يقدم أي أمل بتحسّن الأمور. ينطلق كتابه من المرحلة التي بدأ فيها يهتم بموضوع ما يسميه «أخبار الأرض المسطحة»: «تبدو إحدى القصص الإخبارية صحيحة. ويشيع الاعتراف بصحتها. ويصبح من الهرطقة القول إنّها غير صحيحة ـ وإن كانت مشوبة بالأكاذيب والتحريفات والدعايات». هذه هي أخبار الأرض المسطحة، وقد بدأ دايفيس يهتم بهذه الظاهرة من خلال قصة جرثومة الألفية. فكيف انجرّ هذا العدد الكبير من الصحف إلى إنتاج كل هذه الملايين من الكلمات، وتبيّن أنّها هراء بكاملها، كلمات عن الانهيار المعوّق لكل الحكومات والأنظمة الاقتصادية والنشاطات البشرية، بسبب الكارثة التي كان يُفترض بالجرثومة أن تسببها؟ «قد يموت مرضى الخدمات الصحية الوطنية» (صحيفة التلغراف)؛ «قد تنهار المصارف» (صحيفة الغارديان)؛ «شغب وإرهاب وأزمة صحية» (صحيفة سانداي ميرور)؛ «قد تختفي مدفوعات التقاعد» (صحيفة الإندبندنت)؛ «منظمة حلف شمال الأطلسي تحذر من تأثير جرثومة الألفية في الصواريخ الروسية» (صحيفة التايمز). وأنفقت الحكومة البريطانية مبلغاً تراوحت قيمته المعلنة بين 396 مليون جنيه و430 مليون جنيه و788 مليون جنيه. وفي الليلة الموعودة، تعطّل مقياس لقياس مستوى ارتفاع مياه البحر في ميناء بورتسموث. لا أكثر. ولم تواجه أيّ مشكلة الدول التي لم تنفق أي مبلغ تقريباً، مثل روسيا التي أنفقت حكومتها الممثِّلة لحوالى 140 مليون مواطن، مبلغاً على الجرثومة يقلّ عن ذاك الذي دفعته شركة الخطوط الجوية البريطانية.
ثمة طرائق مختلفة للنظر إلى هذه المسألة التي تحمل أوجهاً تدل على الذعر، وأخرى تشير إلى احتيال أو مخطط لخلق فرص عمل. اختار دايفيس أن يركز على الواقع القائل إنّ ملايين الكلمات التي كُتبت عن الجرثومة، خطّها كلها صحافيون لم يكن لديهم أدنى فكرة عما إذا كان الذي يكتبون عنه صحيحاً أو لا. فهم ببساطة لا يعرفون. ويشدّد كتّاب أخبار الأرض المسطحة جداً على هذه المسألة. فمن وجهة نظر دايفيس، تقضي المهمة الأساسية للصحافة بالتحقق من الوقائع. فالصحافيون لا يمرون مرور الكرام على ما يُنقل إليهم من أخبار من دون القيام بجهد للتحقق منها أولاً. على الأقل نظرياً، لا يمرون عليها مرور الكرام. أما عملياً، فقد أفسد الصحافةَ العصرية فشلٌ مستفحل في التحقق من الوقائع والأخبار، فشل يحدث بطريقة جوهرية وإلى درجة تكاد لا تُصدّق. فتتعمم النتائج وتنتشر.
وداعاً للوقائع
نيك دايفيس وجه غير عادي من أوجه الصحافة البريطانية، ولا سيّما أنه استمر في الإيمان إيماناً يثير الإعجاب بأنّ نقل الوقائع يمثِّل المهمة الأساسية في هذه المهنة. وقد أضحى الصحافيون ينقلون الوقائع أقل بكثير مما اعتادوه في الماضي، وأقل بكثير مما يجب عليهم أن يفعلوا، مع انتقال الصحف إلى الاعتماد على كتّاب العمود ومقالات الرأي. في الماضي، كان أيّ شاب مغمور طموح يدخل معترك الصحافة ليشاهد فيلم «كل رجال الرئيس» (All the President’s Men) وليحلم بإسقاط حكومات عبر سبق صحفي واحد. كل التمنيات له بالتوفيق. هكذا كان دايفيس. أما الشاب المغمور المعادل لذاك الشاب اليوم فسيحلم بامتلاك مقالة عمودية تعلوها صورته، لتكون بمثابة مقدمة إلى انتقال يُحدَّد موعده بإتقان إلى التلفزيون أو الحقل السياسي أو نوع آخر من أنواع الأعمال الاستعراضية.
إلّا أنّ دايفيس لا يزال يؤمن بالتقصّي وإجراء الأبحاث وباستقاء المعلومات من مصادرها. وقد قاده ذلك إلى استخدام باحثين في مدرسة الصحافة في جامعة كارديف من أجل تحديد ما يجري في الصحافة البريطانية. وأتت النتيجة فاضحة ومقيتة. فقد راقب الفريق إصدارات أسبوعين من الصحف وصحيفة دايلي مايل، وحُلِّلت خلال هذه العملية 2207 مقالات من أخبار المملكة المتحدة. وتم التركيز على أمرَين: عدد القصص الأخبارية المستقاة مباشرة من البيانات الصحفية؛ والعدد المأخوذ مباشرة من وكالة الأنباء البريطانية الرئيسية، بريس أسوسييشن (Press Association). وكانت النتائج مدهشة، لكن ليس بالمعنى الإيجابي.
فقد اكتشفوا أنّ نسبة كبيرة تبلغ 60 بالمئة من هذه المقالات المنشورة في الصحف المحترمة تألفت كلها، أو القسم الأكبر منها، من الأخبار التي تؤمنها وكالات إلكترونية و/أو البيانات الصحفية، و20 بالمئة إضافية تحوي عناصر واضحة من الأخبار المستقاة إلكترونياً و/أو البيانات الصحفية التي أضيفت إليها أخبار أخرى إلى حد ما. بالنسبة إلى 8 بالمئة من المقالات، لم يتمكنوا من التأكد من مصادرها، ما يترك فقط 12 بالمئة من المقالات استطاع الباحثون أن يقولوا إنّ أخبارها أتى بها الصحافيون أنفسهم. وأُثبت أنّ صحيفة «التايمز» ضمت النسبة الأعلى، إذ إنّ 69 بالمئة من القصص الأخبارية كانت كلها، أو القسم الأكبر منها، مستقاة إلكترونياً... وتمعّن الباحثون بالمقالات التي اعتمدت على تقرير محدد للوقائع، واكتشفوا أنّ نسبة مربكة منها بلغت 70 بالمئة طبعت الوقائع المزعومة من دون أي توثيق للمعلومات الواردة فيها. فقط 12 بالمئة من هذه الأخبار أظهرت إثباتاً أنّ الواقعة الأساسية تم التحقق منها بشكل كامل. وهكذا، إنّ نسبة 12 بالمئة فقط مما يرد في الصحف تتألف من قصص أخبارية يكتشفها مراسلون ويلاحقونها بمبادرة خاصة منهم؛ ونسبة 12 بالمئة فقط من الوقائع الأساسية يتم التحقق منها. أما الباقي فتُعاد كتابته انطلاقاً من أخبار ترد إلكترونياً ومن البيانات الصحفية. أما الـ88 بالمئة الأخرى، بحسب المصطلح اللاذع الذي ابتكره دايفيس، فهو يشكّل «الصحافة المخوضة». فلا عجب من أن تبدو الصحف نحيلة بعض الشيء. أما بالنسبة إلى المقالات الواردة عبر البريد الإلكتروني، فمعظمها صادر عن البريس أسوسييشن (Press Association):
فعندما ترغب الملكة في مخاطبة العالم، تدلي بتصريح إلى البريس أسوسييشن. وعندما يريد شاعر حائز جائزة ما أن ينشر قصيدة، يرسلها إلى البريس أسوسييشن. كل دائرة حكومية، وكل شركة مهمة وكل مركز شرطة وكل مؤسسة تُعنى بمجال الصحة وسلطة تربوية تدلي بإعلاناتها الرسمية إلى البريس أسوسييشن. فهي الوسيلة الأولى لنقل الأخبار التي عبرها تبلغ المعلومات وسائل الإعلام الوطنية في بريطانيا.
وجد الباحثون في كارديف أنّ 30 بالمئة من الأخبار المحلية تتكوّن من إعادة كتابة مباشرة من أخبار البريس أسوسييشن ونسخ من وكالات الأنباء الأخرى؛ و19 بالمئة أخرى تُعاد كتابتها إلى حد كبير من هذه الأخبار؛ و21 بالمئة أخرى «تحوي عناصر» منها. هذه نسبة 70 بالمئة من القصص الأخبارية المأخوذة كلها أو جزء منها من الأخبار الواردة إلكترونياً. هذا وتقضي القاعدة العامة في الصحافة، التي تكسب أهميتها من استكشاف الحقائق لا مراقبة ما يجري، بأنه يجب تأكيد الخبر من مصدرَين، ولكن بحسب الخطوط التوجيهية في محطة البي بي سي، «يمكن اعتبار البريس أسوسييشن مصدراً واحداً مؤكداً». وشاعت هذه الممارسة بشدة.
وتبعاً لهذا الواقع، فإنّ ما تقوم به البريس أسوسييشن مهماً جداً، وهنا يحمل دايفيس المزيد من الأخبار المثيرة للاشمئزاز ليفصح عنها. فشبكة المراسلين التي تملكها الوكالة تتضاءل بشكل متزايد، فهي تضم مثلاً أربعة مراسلين (بمن فيهم المتدربون) لتغطية كل كارديف وجنوب وايلز ومجلس النواب. ويكتب المحررون، بحسب ما قاله أحدهم، ما معدله عشر مقالات في نوبة واحدة: «عادة لا أمضي أكثر من ساعة واحدة لكتابة مقالة واحدة». ويجري التركيز على تسجيل ما يقوله الناس بدقة. كما يقول رئيس التحرير المسؤول عنه جوناثان غران: «دورنا هو الصحافة المنسوبة (القول المنسوب إلى شخص معين). فالمهم هو الوارد بين مزدوجين». إذا قالت الحكومة إنّ صدام يملك أسلحة الدمار الشامل، فهذا ما ستعلنه وكالة بريس أسوسييشن. ولأنّ البريس أسوسييشن هي أساس هذه النسبة الهائلة من الأخبار الواردة في الصحف، ولأنّ ثمة ميلاً إلى عدم التدقيق في أخبارها، فهي تمثِّل طريقة فعالة للغاية يستخدمها مسؤولو العلاقات العامة لزرع أخبار عبر كل الوسائل الإعلامية الوطنية في الوقت ذاته. وقد قال أحد مصادر معلومات دايفيس، وهو مسؤول عن العلاقات العامة، ويعمل لدى حزب سياسي: «من الأفضل بكثير لوجستياً إرسال الخبر إلى البريس أسوسييشن بدل محاولة الاتصال بـ150 صحفياً، فنادراً ما نخضع إلى ذلك النوع من الاستجواب الدقيق الذي تفرضه علينا مثلاً صحيفة الصان أو التايمز. لا تقوم البريس أسوسييشن بكل هذا التحقيق وطرح الأسئلة الصعبة. إنّهم صحفيون، ولكنّهم يؤلفون خدمة معلومات إلى حد ما».
وهكذا بلغنا مرحلة تحوّل فيها «جوهر الصحافة العصرية» إلى «إعادة توضيب سريعة لمعلومات تبقى إلى حد كبير من دون إعادة تدقيق فيها، معلومات يُحصَل عليها بالواسطة، وقد أُعدّ قسم كبير منها خدمة لمصالح سياسية أو تجارية يملكها أولئك الذين يوفرونها». لو بلغت الأمور هذا المبلغ في الأيام الخوالي لكانت ساعة تسمية المذنب قد دقت، ولتبيّن أنّهم مالكو الصحف الأشرار، أولئك المتلاعبون بالرأي العام الذين يعتمرون القبعات ويدخنون السيجار. لكنني لا أؤمن بنظرية تآمر مالكي وسائل الإعلام، ولا دايفيس يؤمن بها، فهو يعتقد أنّ الضغوط التجارية وحدها هي الملومة. إنّها الضغوط على التكاليف ـ لإنتاج المزيد من الأعداد الأبخس ثمناً ـ ذاك هو المجرم الوحيد المسؤول عما آلت إليه حالة الصحافة العصريةيفصّل كتاب أخبار الأرض المسطحة الطرائق المحددة التي يُمارس فيها الضغط على عمل الصحافة يومياً. فيجب أن تكون المقالات بخسة الثمن، أي «يمكن تغطيتها بسرعة»، و«آمنة النشر»؛ ويجب «انتقاء وقائع آمنة»، والأفضل من مصادر رسمية؛ ويجب «تجنّب السياج الكهربائي» الذي يمثِّل مصادر مشاكل مضمونة، مثل قوانين القدح والذم واللوبي الإسرائيلي؛ وينبغي أن تستند المقالات إلى «أفكار آمنة» ولا تعارض المنطق الشائع المستحب؛ وأن تتجنب المشاكل المعقدة أو التي تحتاج إلى أكثر من فرد أو طريقة لحلها؛ وأن يُنظر دائماً إلى الموضوع من جانبين («فالتوازن يعني ألاّ تُضطر أبداً إلى القول إنّك آسف، لأنّك لم تقل شيئاً»). وبشكل معاكس، ثمة ضغوط ناشطة لمتابعة مقالات تخبر الناس بما يرغبون في سماعه، مقالات تذكر العديد من المشاهير وتغطي أخباراً ترتكز على ما يورده التلفاز، وتتحتم الكتابة بشكل متواصل عن كل موضوع يثير ذعراً أخلاقياً. ذاك هو تأثير ما يجري في بنية الصحافة، إنّها ثقافة مكتب التحرير. طبعاً يترك الضغط على التكاليف آثاراً أخرى وأبسط أيضاً. فثمة فراغات كثيرة يجب ملؤها ـ والنسبة في الصحافة البريطانية تبلغ ثلاثة أضعاف النسبة العادية ـ غير أنّ الزيادات المعادلة في الموارد لإتمام العمل غير متوافرة. وفي أمكنة أخرى من العالم، يكون الضغط على الموارد بالقدر ذاته أيضاً. ففي عام 1970، كان لمحطة سي بي أس الأميركية ثلاثة مراسلين بدوام كامل في روما وحدها: وبحلول عام 2006، صارت كل وسائل الإعلام الأميريكي المطبوع والمرئي والمسموع تملك فقط 141 مراسلاً أجنبياً لتغطية الأخبار في العالم كله.
العلاقات العامّة
مع ازدياد الضغوط على الصحافة، قدّم المسؤولون عن العلاقات العامة ما يبدو أنّه يمثِّل حلاً للمشاكل. تريدون أخباراً؟ سنقدمها لكم. في بريطانيا الآن 47800 شخص يعملون في مجال العلاقات العامة مقابل 45000 صحافي. ومسؤولو العلاقات العامة لا يتوسلون تغطية أخبار زبائنهم: فهم أمكر من أن يفعلوا ذلك. وعندما يدقق أحدهم في المسألة، يرى تأثيرهم في كل مكان تقريباً في الصحافة. كان الراحل العزيز أوبرون واو يقول إنّ وراء أي ادّعاء مثير للاهتمام أو لافت أو مدهش في الأخبار إمّا شخصاً يطالب بالمزيد من الأموال الحكومية أو بياناً صحفياً. ويصح هذا الكلام اليوم أكثر من أي وقت مضى، إلّا أنّ البيان الصحفي اليوم سوف يعلن نتيجة استطلاع (وهو من التكتيكات المفضلة لدى المسؤولين عن العلاقات العامة) أو «بيان» من مجموعة مزيفة لممارسة الضغوط، مثل مجموعة من المجموعات العديدة التي أنشئت لإشاعة جوّ من الشكوك حول مسألة تغيّر المناخ. وتُعرف مجموعات الضغط هذه بتسمية «العشب الاصطناعي» في مجال العلاقات العامة، لأنّ جذور عشبها مزيفة، ولكنّ ذلك لا يحول دون امتداد بياناتها ودراساتها إلى الأخبار. ليست العلاقات العامة تحديداً الحلقة النذلة في هذه السلسلة، إلا أنّ دايفيس يحاول الإقناع بطبيعتها المهيمنة في الصحافة العصرية، وأيضاً بالتعقيد المتزايد لتقنياتها. فهو يذكر الطريقة التي قام فيها رجال الأعمال الثلاثة، المصرفيون البريطانيون المتورطون في قضايا احتيال «إنرون»، بتدبّر أمورهم ليظهروا بمظهر ضحايا النظام القضائي الأميركي، وذلك بواسطة رجال أعمال ومجموعات ضغط في ميدان الحقوق المدنية وبرلمانيين يقومون بحملات نيابة عنهم، فيما كانوا في الحقيقة لصوصاً محتالين.
ويضم كتاب «أخبار الأرض المسطحة» العديد من الأمثلة الأخرى. فدايفيس، المطّلع على مجال العلاقات العامة، ينظر حتى من زاوية جديدة أيضاً إلى مسألة ألاستار كامبيل وقضية كيلي. ففي سرده للأحداث يقول إنّ «كامبيل استخدمها لتحويل الانتباه عن موضوع محرج للغاية كان يبرز ببطء في شهري أيار/مايو وحزيران/يونيو عام 2003، وهو موضوع عدم امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل، موضوع ثار حوله جدل طويل». فبعد أربعة أسابيع من إذاعة تقرير أندرو غيليغان في برنامج «اليوم» (Today)، لم يطلب كامبل أي اعتذار عما ورد فيه بالتحديد، ولم يُحله على دائرة الشكاوى في محطة البي بي سي، ولم يأت على ذكره خلال الغداء الذي تناوله مع رئيس غيليغان، ريتشارد سامبروك. ولكنه بعد ذلك قام بثلاث «خطوات أساسية»: في 25 حزيران/يونيو، رفع المسألة رسمياً أمام لجنة التدقيق في الشؤون الخارجية («إلى أن تعترف البي بي سي بأنّ هذا الخبر عار من الصحة سأستمر بإثارة الضجيج حول الموضوع»). في 26 حزيران/يونيو كتب إلى سامبروك طالباً جواباً في اليوم ذاته، ونشر رسالته في الصحف؛ وفي 27 حزيران/يونيو دعا نفسه إلى حد ما إلى أخبار القناة الرابعة لمهاجمة البي بي سي، مباشرة على الهواء. ويعلق دايفيس على ذلك بالقول: «هذه الخطوة كرست في النهاية الموضوع الهادف إلى تشتيت الانتباه عن المسألة الأساسية في الإعلام، فأصبح هذا الموضوع هو محور الاهتمام. أما الأسئلة الجوهرية عن أسلحة الدمار الشامل العراقية، فوُضعت جانباً. وقد كتب العديد من المراسلين السياسيين في ذلك الحين أنّ ذلك يبدو أشبه بتكتيك لتشتيت الانتباه. ومع ذلك، قبلوا جميعاً بأن يُشتت انتباههم. العلاقات العامة فعالة». ويشرح هذا الكلام ما قصده كامبل، كما سُجل في يومياته في 25 حزيران/يونيو: «فتحت جبهة جانبية في البي بي سي».
صورة قاتمة
ويضيف دايفيس بضعة فصول مليئة بالتفاصيل عن الطريقة التي شردت فيها الصحف: استخدام المحققين الخاصين على نطاق الصناعة ككل، ثقافة الخطأ في صحيفة الدايلي مايل، السهولة التي اختارت فيها الحكومة صحيفة الأوبسرفر من أجل الدفاع عن خوضها الحرب في العراق. هذه الفصول ليست ضرورية فعلياً للمحور الذي يرتكز عليه الكتاب، مع أنّ إيضاحات دايفيس غير مبهجة. ففي بريطانيا مثلاً، وحده الثري يمكن أن يرفع دعوى بتهمة القدح والذم؛ ويجب على كل الآخرين أن يبحثوا عن حل لمشاكلهم عبر لجنة الشكاوى الصحفية التي أنشأتها صناعة الصحافة لتنظيم ذاتها. ولكن لجنة الشكاوى الصحفية ترفض 90.2 بالمئة من الشكاوى على أسس تقنية من دون تحقيق. فمن أصل 28227 شكوى تلقتها اللجنة على مر عشر سنوات، صدر حكم قضائي من اللجنة بـ197 قضية فقط: ما نسبته 0.69 بالمئة...
تلك هي الصورة المحبطة للغاية التي رسمها دايفيس إذاً. فوسائل الإعلام البريطانية تنهار تحت وطأة الضغوط التجارية، وتعتصرها الحاجة إلى السرعة، وتفسدها العلاقات العامة، وهي لا تبالي بتقاليدها الخاصة التي تقضي باستقلاليتها، وتتجاهل بتهور مهماتها الأساسية القاضية بنقل الوقائع والتحقق منها، وتخضع منهجياً لأكاذيب المصالح التجارية والحكومات، وفي العديد العديد من النواحي، تبقى بكل بساطة غير مبالية بالحقيقة. فثمة فشل متزايد يجتاح الصناعة كلها، فشل في إيلاء الحقيقة اهتماماً كافياً. ويمكن أن أضيف عدداً من التفاصيل إلى هذه الإدانات تتعلق بالطريقة التي استسلمت فيها الصحف إلى ثقافتها الداخلية الخاصة المتعلقة بشهرة كتّاب المقالات العمودية، ومعظمهم لا يقوم بأي محاولة لنقل وقائع ما يجري في العالم، مفضلاً إطلاق المواعظ بدلاً من ذلك. ويمكن أن أضيف أيضاً ـ مستعيراً نقطة أثارها صحفي تكلمت معه يوافق بتردد على ما ورد في كتاب أخبار الأرض المسطحة ـ أنّ الانهيار في مجال الأخبار يقود إلى تراجع هائل في سائر أقسام الصحف. فمعظم المقالات العمودية تدور حول تفاصيل ترتبط بالأخبار، فإذا لم تؤدّ الأخبار مهمتها الأساسية من تحقيقات وتتحقق من الوقائع، لا تقوم الأجزاء الأخرى من الصحيفة بوظيفتها الأساسية. إنّ دايفيس لا يذكر ذلك، ولكنّ هذا غير مهم جداً، بما أنّه يكاد يستحيل أن تأتي الصورة التي رسمها عن الصحافة البريطانية أقتم أو أكثر إقناعاً. وتأتي خاتمته في السياق نفسه لسائر الكتاب، فهو يقول: «ما أخشاه هو اعتقادي بأنني، في الحقيقة، في محاولتي عرض مواطن ضعف الصحافة، صورت مرض سرطان. قد يكون التمكن من رؤية المرض مفيداً إلى حد ما. فقد نستطيع على الأقل أن نعرف، نظرياً، ممّا يمكن أن يتكوّن العلاج. ولكن أخشى ما أخشاه أن يكون المرض مميتاً».
* عن «لندن ريفيو أوف بوكس»