لطفي حجي *هل نحن أمّة؟ سؤال طرحه العديد من المفكّرين والباحثين العرب منذ ما عُرف بعصر النهضة العربية. ومنذ ذلك التاريخ تعدّدت الرؤى حول مفهوم الأمّة بين التيارات الأيديولوجية المتصارعة، وكانت الأجوبة حسب الانتماء الفكري والأيديولوجي بين أمّة إسلامية للإسلاميين وأمّة عربية للقوميين.
إذا نظرنا إلى المسألة من الزاوية الإسلامية، وجدنا أن لفظ الأمّة ورد في القرآن إحدى وخمسين مرّة في سياقات مختلفة. وفي المرّات التي خاطب فيها القرآن المؤمنين بوصفهم أمّة، كانت جميعها تحمل مضامين حاثّة على الوحدة والخير والتضامن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي المضامين التي تلقّفها العلماء المسلمون للحديث عن الأمّة المسلمة ككيان يجمع شمل المسلمين ويوحّدهم.
وبالتوازي مع ذلك، تعدّدت النظريات القومية حول الأمّة التي تشدّد على أنها قائمة بالذات، باعتبار أنها توفّر عناصرها المتمثلة في وحدة اللغة ووحدة الأرض ووحدة التاريخ، وأنّ هذه الأمّة العربية التي «وحّد الزمان ظروفها» على حدّ تعبير المنظّر القومي الراحل عصمت سيف الدولة، قد تشكّلت منذ أكثر من أربعة عشر قرناً، وأصبحت أمّة عربية واحدة. ولذلك كان مدار القوميّين الذين وصلوا إلى السلطة في عدد من الأقطار العربية هو الأمة، وعليه لم يكن من الغريب وفقاً لتلك الأرضية النظرية، أن يكون شعار حزب البعث العربي الاشتراكي هو «أمة واحدة ذات رسالة خالدة».
ما دفعنا إلى تناول مفهوم الأمة الواحدة، هو المحرقة التي تُسلَّط على الفلسطينيين في غزة، والتي قُوبلت بصمت عربي وإسلامي رسمي لافت. وقد أبرزت محرقة غزّة عجزاً عربياً رسمياً يُضاف إلى العجز في المواجهات السابقة بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين، وهو ما يبرّر إعادة طرح السؤال عن وجود الأمّة الفعلي وأسباب تكرار هزيمتها أمام عدوّ لا يضاهيها من حيث العدّة والحجم والثروة إن شئنا. إثر قيام دولة إسرائيل سنة 1948، ألّف المفكّر العربي قسطنطين زريق كتاباً تحت عنوان «معنى النكبة»، قال فيه «ليست هزيمة العرب في فلسطين بالنكسة البسيطة، أو بالشر الهيّن العابر، بل هي نكبة بكلّ ما في هذه الكلمة من معنى، ومحنة من أشدّ ما ابتُلي به العرب في تاريخهم الطويل على ما فيه من محن ومآسٍ». ورأى الرجل أن لنكبة العرب في فلسطين أسباباً قريبة وأخرى بعيدة، وأنّ المعالجة المفروضة هي أيضاً قريبة وبعيدة. أمّا المعالجة القريبة فتقوم على خمسة أركان تتمثّل في تقوية الإحساس بالخطر وشحذ إرادة الكفاح، والتعبئة المادية في ميادين العمل كلها، وتحقيق أكبر قدر ممكن من التوحيد بين الدول العربية، وإشراك القوى الشعبية في النضال، واستعداد العرب للمساومة والتضحية ببعض المصالح لدرء الخطر الأكبر.
أمّا المعالجة البعيدة أو الحلّ الأساسي كما يسمّيه زريق، فسبيله عنده في «تبدّل أساسي في الوضع العربي، وانقلاب تام في أساليب تفكيرنا وعملنا وحياتنا بكاملها، يكفل قيام كيان عربي متقدّم قادر على أن يدرأ الخطر الصهيوني، بل أي خطر أجنبي، ويتغلّب عليه، ويتيح للشعوب العربية أسباب البقاء والكرامة والازدهار. وأهمّ مقوّمات هذا الكيان العربي المنشود هو الاتحاد، والتقدّم الصحيحوجد زريق نفسه مضطرّاً لإعادة التأكيد على هذه القواعد في كتاب ثان ألّفه إثر هزيمة 1967 بعنوان «معنى النكبة مجدّداً»، لاعتقاده أن ذلك المعنى كما سمّاه، ينطبق على الوضع العربي سنة 1967. بمعنى أن العرب لم يستفيدوا شيئاً من النكبة الأولى.
لم يكن زريق وحده من المفكّرين العرب الذين حاولوا الوقوف على خفايا هزيمة العرب المتكرّرة، بل كان هناك العديد من المفكّرين الذين لم يعوزهم العمق والجرأة، ولعلّ أهمهم المفكر السوري ياسين الحافظ الذي ألّف إثر هزيمة 1967 كتاباً مرجعاً بعنوان «الهزيمة والأيدولوجيا المهزومة»، احتوى على تحليل أسباب الهزيمة العربية.
رأى ياسين الحافظ أنّ «المعنى العميق لحرب الأيام الستة يتجاوز بكثير معنى الهزيمة العسكرية العادية التي مُنيت بها هذه الأمة أو تلك في الحرب العالمية الأولى أو الثانية. كان ممكناً أن نسمّي نتيجة هذه الحرب هزيمة عسكرية لو كان ثمة ظلّ من التكافؤ السكاني بين الشعب العربي وإسرائيل، أما وإن إسرائيل أصغر بخمس عشرة مرة من قطر عربي واحد فقط، وتكسب منه المعركة العسكرية بمثل هذه السهولة والسرعة، عندئذ لا تعود المسألة مسألة هزيمة عسكرية عادية لا من قريب ولا من بعيد».
إنّ عدم إنصاتنا على امتداد أكثر من نصف قرن إلى صيحات الفزع التي أطلقها عرب من ذوي التفكير الثاقب والضمائر الحية، يبرز أننا لا نزال نراوح في المكان نفسه في تصوّرنا لذاتنا وفي علاقتنا بالكيان الصهيوني، وأننا نعيش انقساماً عميقاً في تمثّل الوعي بالأمة الواحدة والمصير المشترك في العالم العربي. ومن اليسير أن نلحظ انقساماً بين أربعة مفاهيم متضاربة.
ـ الأول هو وعي الدعاة لمفهوم الأمة الواحدة الذي يتحوّل عندهم إلى نوع من التبشير الديني أو الأيديولوجي، لا يراعي تغيرات الواقع وانكساراته.
ـ والثاني هو وعي الشعوب الذي هو وعي فطري يرغب بحق في الوحدة والتوحّد من منطلق قناعة أبنائها أنهم بالفعل أمّة واحدة.
ـ والثالث هو وعي المفكّرين الناقدين، وهم الذين يطلقون صفّارات الإنذار مع كلّ هزيمة تعيشها الأمّة ليبيّنوا الأخطاء والمزالق، ويبرزوا محدودية الاستراتيجيات وعجز السياسات عن تحقيق الانتصار وبلوغ الأهداف في توحيد الأمّة وتجاوز هزائمها التي كادت تتحوّل إلى هزائم مزمنة.
ـ ونجد في الأخير وعي السياسيّين الرسميّين أصحاب النفوذ والقرار الذين يقايضون مفهوم الأمة بالرغبة في البقاء، فتتحوّل الأمة عندهم إلى أداة سياسية فارغة من أي مضمون، وهي أداة للمزايدة في اللقاءات الرسمية العربية، حيث يتحوّل الخطاب الرسمي الظاهر إلى خطاب توحُّد، في حين أن الممارسة هي ممارسة تناحر ومحاربة مستمرة وعجز دائم عن رسم سياسات موحدة على محدوديتها.
يعلم الجميع مثلاً أنّ الاتحاد الأوروبي بدأ بالاتفاق بين مجموعة من دوله في الخمسينيات على التعاون في مجال الفحم والطاقة، ومن هناك انطلقت عجلة التعاون ليصبح الاتحاد على ما هو عليه الآن من عملة موحدة، وبرلمان مشترك لسنّ القوانين، ومجلس اتحاد لاتخاذ القرارات، ومفوضية لتجسيد السياسات المتفق عليها.
استطاع الأوروبيون تحقيق ذلك في نصف قرن ـ وهي المدة نفسها على نكبة فلسطين الأولى ـ على الرغم من أنهم ليسوا أمّة ولم يدّعوا ذلك يوماً، لكنهم مع ذلك تجاوزوا الشعار والمزايدة إلى ما يمكن أن نسميه بالسياسات الواقعية والعقل العملي، لإدراكهم أن التقاء المصالح هو المدخل الأساسي للتعاون، ومن ثم للتوحّد إن كانت هناك نية. وذلك العقل العملي هو الذي غيّبته أنظمتنا السياسية التي ترفض الشروع في وضع اللبنات الأولى لعمل مشترك جدّي يكون مدخلاً للتوحّد ولو بعد عقود.
إنّ الأنظمة العربية، نظراً لافتقارها إلى العقل العملي ونية البناء الجماعي، عمّقت على امتداد العقود الماضية التجزئة حين نادت بالوحدة، وبيّنت أنّه لم ينفع معها حثّ الإسلام على فضل التوحّد وخيريّة الأمّة الواحدة، وذلك رغم تكرار تشبّث تلك الأنظمة بالإسلام، كما لم ينفع معها الفكر القومي الذي جعل من الأمّة الواحدة قصب السبق في الصراع العربي الصهيوني، ولم تنفع معها أيضاً صيحات المفكّرين المنادين بالتغيير لتجاوز الأسباب العميقة للهزيمة العربية.
يُضاف إلى تلك العوامل الدائمة منذ خمسين سنة، عامل جديد استفحل بعد سقوط بغداد، ويتمثل في أن الأنظمة العربية الراهنة أصبحت تقايض وجودها في الحكم بالصمت عمّا يجري في فلسطين والعراق، وبالكف عن التفكير في سياسات تقود إلى الموقف العربي الموحد الذي قد يوحي بوجود الحد الأدنى من التنسيق والتضامن العربيّين.
إنّ تلك السياسات هي التي تفسّر استمرار المحرقة ضدّ الفلسطينيين، وهي التي تجيب عن سؤالنا الأوّل بأنّنا لسنا أمة في سياساتنا رغم نبل المشاعر الشعبية، وأنّ أنظمتنا المتشبّثة بالسياسات نفسها منذ نكبة 1948، لم تعِ دروس التاريخ، فبقيت تنتج الهزيمة تلو الأخرى.
* صحافي وكاتب تونسي