نسيم ضاهر *أثارَ استخدام تعبير «الحرب المفتوحة» من جانب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله تساؤلات وتعليقات، بعدما ورد في خطابه بالحشود خلال تشييع جثمان فقيد الحزب وأحد قادته العسكريين الأشداء عماد مغنيّة، المكنّى بالحاج رضوان لأسباب سرية واحترازية معروفة. سارع السيد نصر الله في ما بعد، وفي ذكرى أسبوع الشهيد، إلى مزيد إفصاح وإيضاح عن مقصده واستعارته الشَرطية دون أن يُبدّد وقع كلماته ومدلولها كما استقرّا في أذهان الجمهور المحازب والمراقبين على السواء.
يقترب موعد الذكرى الأربعين لاغتيال الحاج رضوان في ضاحية دمشق، وتزداد التوقّعات حيال الموقف العملاني الذي سيتخذه حزب الله جرّاء اتهامه الموساد الإسرائيلي بتنفيذ الجريمة، إذ إن الوعد الرسمي السوري بتحقيق شفّاف وعميق يكشف الوقائع والملابسات ما برح طي التأجيل، يكتم سجالاً (وتبرماً صامتاً) إزاء مجرياته الخفية وغير المعلَنة لتاريخه. لربما لن يدفع الترقّب الملحاح إلى تصريح علني مصدره حزب الله، يشي بملمح عملية الردّ، فهو غير ملزم بذلك ولا مقيَّد بمكان أو زمان حسبما درج عليه سابقاً، إلّا أنّ مفاعيل ربط النزاع، على وجه الاشتباك والثأر تبعاً لتغيّر قواعد اللعبة، آخذة في الانفلاش، تترك آثارها على السلوكيات، وتستولد الهمس والتفكير في القادم من احتمالات.
فاجأ الأمين العام أكثر من طرف حين ذهب الى التلويح بالحرب المفتوحة، وإن معطوفة على النهج الإسرائيلي، وخاصة بعدما أرفق اتساع رقعتها وتبدّل طابعها المعهود، بمعطيات رقمية عن التدريب والاستعدادات الميدانية والعديد المقاتل والسلاح المضاف الى الترسانة الصاروخية الموروثة من حرب تموز عام 2006. شمل عنصر المفاجأة بعض الحلفاء والأصدقاء، وحتى الأوساط الراعية وصاحبة العون والمدد، وأربك ردود فعلها المباشرة، ومعطيات حساباتها وجداولها ومقتضيات التنسيق، كاشفاً عن حلقات مفقودة وهوامش حركة تسوق الى إخلال بالنصاب وجنوح عصيّ على الضبط.
في المقابل، على الضفة الإسرائيلية، كثَّفَت دوائر القرار من نشاط أجهزة الأبحاث العسكرية والمخابراتية، ساعيةً الى رسم السيناريوهات الافتراضية وتحديد المخاطر وأولويات ترتيبها وسبل مواجهتها، في سياق إعادة النظر الشاملة بإدارة حرب تموز، واستخلاص الدروس من ثُغرها وإخفاقاتها. ولا يسع المتابع إهمال إسهاب تل أبيت في تعداد التدابير الوقائية المتَّخذة، وتسريبها معلومات مفصّلة عن تطوير منظومة أسلحة مضادة للصواريخ، إلى جانب حزمة الابتكارات الرائدة في مجال التحكّم عن بعد، التي باشرتها أو أنجزتها المؤسسة الصناعية العسكرية. كذلك تعمَّدت إسرائيل توجيه الرسائل المعبّرة عن الجهوزية والتصميم، عبر مضاعفة التمارين وبيان مطابقتها للمستخلَص من إخفاقات حرب تموز في ميدان شبيه بالبلدات الجنوبية، والقيام بمناورات واسعة على مقربة من الحدود الشمالية، والمراجعة التفصيلية لمهمّات الوحدات وكيفية إدراج صنوف الأسلحة والربط بينها في العمليات الحربية المنتظرة.
راكمَ القول بالحرب المفتوحة جُملة مؤثّرات، أضافت إليها النبرة الانفعاليّة حيِّزاً من التوجّس، فاقمه مظهر الاستعدادات الإسرائيليّة على خلفية مداولات قاتمة في تقديراتها، وحازمة في توصياتها. وزاد الطين بلَّة الغموض المحيط بظروف اغتيال الحاج رضوان، وتوجُّه خطاب حزب الله نحو التشدّد في الداخل، وإلقاء الحرم على الغالبية في كل شاردة وواردة، كأنه يريد مصادرة الإحساس الوطني والانفراد بمبدأ السيادة، الى الإمساك بقرار السلم والحرب، ما عمّق الهوّة الفاصلة عن مبلغ الشركاء في الوطن، وألزم المتفاهم العوني معه برشقات قومية جسورة تُخوِّل قيادة حزب الله التصرّف المطلق، ولا تصرّف في الواقع الشعبي على الأرض. إنما أتت أفدح النتائج والتداعيات من حاضنة الحزب الشعبية، الوفية لسياساته، والقانعة بمنتهى جدّيتها، واقتران القول بالفعل، التي هالها تصوّر المشهد، وما ستخلِّفه الحرب المقبلة من مآسٍ وويلات على جمهور الحزب بالذات.
لا يمكن التكهّن حاضراً بإعطاب الهواجس الناجمة عن مجاورة حافة الهاوية، والساكنة في وجدان الجماعة عن تجارب ومعرفة بتبعات إثبات العدو الإسرائيلي لمقدرته، عند الامتحان، واستعادة هيبة فقدت الى حدّ كبير عام 2006 خلال مواجهة عرجاء مع حزب الله. فالمسألة تتجاوز، أو بالأحرى تلتفّ على مفهوم الولاء، في المعنى الإرادي والسياسي الواعي، لتنبسط في بندر الثقة المجرّدة من شحنات العاطفة، والمتّصلة بحقائق الحرب كما يصفها ويهيّء لها كلا الفريقين. من هنا، يجيز الوفاء المطلق لحزب الله طوال ما يقارب العقدين، ومرافقته العضوية في السرّاء والضرّاء، والوعد والتنفيذ، استدراك الآتي من مصاعب، من غير مشاحنة، واستطلاع بدائل الحماية المصلحية، الشخصية والعائلية، في مدار آخر، جغرافي وبيئي، على شاكلة الاحتياط والملاذ.
إنّ غريزة البقاء باتت تملي عفوياً البحث عن وسائل تجنّب المحنة والخلاص الفردي، فهي لا تُعْزى الى طموح في المساءلة، أو ترتقي الى هذا المصاف، بل تتمظهر كإفراز طبيعي بنته العلاقة الوثقى بمسار حزب الله، ما يؤهِّل بالتالي معنوياً وأخلاقياً، الى تلمس الدروب الآيلة الى الإخراج من دائرة الاستهداف.
كثرت أخيراًَ الإشارات الدالّة على ظاهرة الفكاك عن التشبّث بالجغرافيا والصمود المدني في المواقع. فمن كل صوب، تتبدَّى لهفة صامتة الى الوقاية من حرب مُدمِّرة، ودرء مخاطرها اللصيقة بالمكان، سلفاً، وما عاد الحديث عنها تشويشاً على المقاومة ونيلاً من عزائم المدنيين، إنفاذاً لفرضية وإشاعة للأقاويل. وعليه، تتقاطع المعطيات والشواهد على وقائع ثابته مفادها مغادرة مسرح العمليات الرئيسي وفكّ الارتباط المباشر بواجب البقاء والإسناد، عربوناً لوحدة الشعب والمقاومة المسلَّحة، وتأييد أبناء الأرض غير المشروط للجهادية وحتميّتها. لقد مهَّدَ امتناع الجنوبيّين السلبي عن إعلان الثقة بمستقبل هادئ وهانئ، وإبداء الشكوك حيال ديمومة بناء المنطقة وإعمارها، الى ضرب من الهروب الاحترازي، المحاذر لإثارة الظنون والإشكالات، يتمثّل في اختيار الميسورين مكان إقامة آمن لا شبهة عليه نظرياً خارج معاقل حزب الله، في المدينة أو في جبل لبنان، وفي تهافت المواطنين العاديين على دوائر الأمن العام لاستخراج جواز سفر، توطئة للرحيل والهجرة.
ازدادت الحيرة بين صفوف الأهل، فما عاد يستنهض خطاباً بلغة خشبية تكرّر المكرَّر وتبارك للتضحية، وأضحى الهمس بالمصاعب والمخاوف سبيل الناس المؤيديّن أساساً، الى المخارج وبرّ الأمان.
تزعم هذه المقالة، في حدود متسعها وعجالتها الزمنية، أنّ فعل الكلمات، الصادرة في ظروف مأساوية ضاغِطة عن قيادة حزب الله، نتيجة المحنة القاسية التي خطَّها اغتيال عماد مغنية، انقلب على المراد التعبوي، وأسفر، في المحصّلة، عن مردود مغاير لمحمول الخطاب الأصلي. والواقع أن تشقّقاً بان في جدار صلب حصين يعادل المسلَّمة المبنية بدأب ولحمة، وذلك في شكل مباغت، سائر نحو تكوين ظاهرة جديرة بالمعاينة والمواكبة. ربّ قائل إنّ الحرب النفسية المتبادلة ليست بعيدة عن الإشكاليات القائمة، إنما تعود الكلمة الفصل، في المدى البعيد، الى الثابتين على العهد، الصادقين في وعدهم واستشرافهم، وأنّ ما نشهده لا يعدو كونه عثاراً هامشياً ومظهر خوف دبّ في معشر الضعفاء ريثما تستعيد المقاومة المبادرة، وتثبت، مجدّداً، قدرتها على التحكم في الأحداث واختيار مكان الثأر وزمانه. لكنّ هذه الحيثيات تتعامل مع التطوّرات على أنها من الفواصل العابرة، وتنطلق وفق قراءة متجذرة من فرضية مطمئنة قوامها قدرة حزب الله على استيعاب تداعيات المرحلة ورصف الصفوف نظامياً في نهاية الطريق.
ما يفوق قيادة الحزب الإضاءة عليه وتلمّسه من زاوية واقعية، تبدُّل الأداء وليس القناعات على ضفّتي النزاع، ومغالطات المبالغة في تزيين الانتصار الإلهي، الأمر الذي أدّى الى تغييب أوجاع المناصرين وتجاهل العوامل النفسية التي اعتملت مذاك وجعلت من الحرب ذكرى أليمة، بغيضة مادياً وحياتياً، ينفر الناس من الترحيب بعودتها واستحسان التسليم بقبولها. على هذا المعنى، ليست الحرب بشارة تُزَفّ الى ضحاياها المحتَملين، أيّاًَ كانت نتائجها المرجوّة، وكيفما شرحت حتميتها وجرى وصلها بزوال الكيان الغاصِب في إنشاء لفظي يفتقد كفاية التشخيص وصحّة الإقناع.
راحَ حزب الله بعيداً في تأريخ الحرب المفتوحة على لبنان منذ عام 1948، وأوحى لمؤيّديه، وللبنانيّين عموماً، أن لا مفرّ من الحرب ضمن معطى تأييد الصراع ورؤيته صراع وجود، في ما يشبه مطالبتهم بالاستعداد لتقديم المزيد من التضحيات، والتأقلم مع حال قدريّة تُعسكِر المدنيّين بالضرورة، وتملي عليهم الواجب والانضباط في غياب تعريف واضح ومحدَّد للأرض المحتلّة والمطلوب الذود عنها واسترجاعها بموجب المسؤوليّة الوطنية والتربية الجهاديّة. بذلك، وللمرّة الأولى منذ ربع قرن، حالت اندفاعة حزب الله الجهادية دون تلقُّف قاعدته الشعبية للانخراط بها، ومسايرة منطقها، لأنّها سلخت عن غايتها العناصر الماديّة الملموسة من قهر للشريحة المعنية واحتلال لترابها الوطني، واستبدلتها بالدوافع الاستراتيجية وضبابية الوكالة عن الأمّة، وهما شرطان غير كافيَين لبيان خطر المحو الوجودي المحيق بلبنان الشعب والأرض، والتضحية بالذات من أجل خلاصية غير مؤكّدة. فعلى نقيض ذلك، يبرز حاصل المقاومة المجيد، ويدحض مقولة الزوال المرتسم في الأفق، لأنّ إنجازاتها حقيقة واقعية صامدة تستدعي عدم التفريط بها أو المقامرة والمغامرة برصيد كفاحها الطويل والمثمر بلا جدال.
ينزع الحزب في حقبة ما بعد تموز 2006، إلى تكليف المواطن العادي ما ليس بمستطاعه، في الوقت الذي شهد فيه صعوبة وحدود إعادة إعمار ما تهدّم والتعويض عن الخسائر. ينطوي عزوف الأفراد عن التجاوب الضمني الصريح مع أطروحات المنازلة المؤدية إلى رؤية العدو «نجوم الظهر» حسب الشيخ نعيم قاسم، نائب الأمين العام، على إقرار بالتعب والرغبة في تلافي وقوع اشتباك واسع مديد، مخافة خسارة جني العمر ومقوّمات الحياة الكريمة.
ليس في هذا الامتعاض الصامت علامة على طلاق سياسي أو مخالفة جذرية لعقيدة الحزب الجهادية، سوى أنه مؤشّر على بدء تبدُّل الرياح والأحوال نتيجة الإنهاك وطول المعاناة. ومنطوق رسالة تراعي الوفاء التاريخي، وتنادي، في الموازاة، بتفصيل المهمات التعبوية والعسكرية على مقاس لبنان وأرضه. وكأنما لسان حال أهل العطاء والحمية يقول نعم للقرابين من أجل الوطن وذات الجماعة الكيانيَّة فيه، ولا حاجة إلى من أدَّى قسطه في المقاومة والتحوير، أن يُمسي وقوداً للمعادلة الإقليمية، وينزل أرضاً مثابة الساحة المكشوفة دوماً على الصراع، والقاعدة الأمامية التي كُتب عليها اختزال مراد الأمة وهمومها.
* كاتب لبناني