دينا حشمتفلا مفرّ من رفع هذا الدعم عن الخبز من وجهة نظر النخبة الحاكمة. ورغم أنّ الحكومة أعلنت مراراً وتكراراً زيادات في سعر «رغيف العيش»، من 5 قروش إلى 20 قرشاً (حسب قرار أُعلن بداية عام 2007)، ثمّ تراجعت لتعلن زيادة السعر إلى 10 قروش فقط، وهي الزيادة المرتقبة في شهر تموز / يوليو المُقبل، فالحقيقة أن ذلك لم يحدث حتى الآن.
لم تجرؤ الحكومة إذن على اتخاذ خطوة واضحة وصريحة برفع الدعم عن الخبز؛ لم تجرؤ بعد على تطبيق وصفة ليبرالية قديمة تطبيقاً «حاسماً وضرورياً»، خوفاً من نزول «الحرامية» مرّة أخرى إلى الشارع. لكن هذا لا يعني أن الوضع ظلّ على ما هو عليه. ففي ظلّ زيادة عدد السكّان السريعة ـ من حوالى خمسة وأربعين مليون نسمة سنة 1975 إلى ثمانين مليوناً اليوم حسب آخر التقديرات ـ فإنّ عدم زيادة الدعم يعني في الحقيقة تقليصه. هذا إلى جانب الإفقار العام المتفاقم في السنة الأخيرة، بسبب الارتفاع الجنوني في الأسعار، الذي طال جميع السلع الأساسية في السنة الماضية بنسبة 100 في المئة. فاتّسعت بسبب هذا الإفقار رقعة المحتاجين إلى الدعم.
ظلّت الحكومة إذن تفكّر وتدبّر على مرّ العقود، دون أن تنجح في تطبيق وصفتها الليبرالية، ودون أن تنجح في أن تقضي نهائياً على الدعم، إلى أن وصل المشهد إلى ما هو عليه الآن. فلا يمرّ يوم دون أن نسمع عن قصة جديدة، عن شاب قُتل بسبب رصاص أطلقه صاحب فرن حاول فض الزحام الشديد، عن رجل عجوز مات لأنّه لم يحتمل التناحر، عن مواطن قُتل لأنّه تدخّل لفضّ مشاجرة على كيس دقيق. لا يمكن إحصاء عدد «شهداء طوابير الخبز» (حسب فتوى أطلقها أحد المشايخ أخيراً)، آخر الأرقام تحدّثت عن وقوع 12 قتيلاً. لكنّ الناس لا حديث لهم سوى «أزمة العيش»؛ بين من يحكي كيف رأى «ستات بايتة قُدّام الفرن طول الليل»؛ ومن قرّر الانسحاب من ميدان المعركة، والاستغناء عن العيش واستبداله بالأرز و«المعكرونة» ـ التي ارتفع سعرها أخيراً ـ ومن يتندّر عن ظهور «رغيف عيش بنصّ جنيه، وبـ75 قرشاً حتى» ـ أي بعشرة أضعاف السعر المدعّم. وأصبح مشهد الطوابير الطويلة، في أيّ ساعة من الليل والنهار ـ طابور للرجال وآخر للسيدات ـ مشهداً «عاديّاً» لكنّه مرعب في آن واحد، مشهداً كان دائماً جزءاً من الحياة اليومية للمواطن المصري، لكنّ تفاقمه في ظلّ الظرف الحالي يحمّله معاني جديدة.
إنه مشهد يحمل معاني الهول مما يمكن أن يحدث في مستقبل قريب؛ هول «المجاعة» التي ظهرت من جديد في القاموس اليومي، وخاصة في الأرياف؛ هول يستدعى للأذهان صور ومشاهد لمجاعات أخرى عرفها التاريخ المصري.
إنه مشهد يحمل في طيّاته انقسام المجتمع الذي يتعمّق يوماً بعد يوم، بين واقف في طابور العيش «أبو شلن»، وبين متحسّر على اختفاء الرغيف «أبو ربع جنيه»، والمتندّر عن ظهور رغيف بنصف جنيه، أو أكثر. بين ابن «البوّاب» الذي يتحمّل الزحام لشراء الخبز لسكّان العمارة، و«ابن البيه» الذي يمكن أن يختار بين أنواع الخبز المغلّفة التي تقدّمها السوبر ماركات الجديدة.
إنه المشهد الذي يجسّد فشل جميع الخطط الوزاريّة. مما جعل البدري فرغلي، القيادي بحزب التجمّع، يطالب بإقالة حكومة نظيف. إنه المشهد الناتج من التخبّط الشديد لقرارات غير مدروسة. سمعنا عن قرار «فصل الإنتاج عن التوزيع» للقضاء علي مافيا بيع الدقيق المدعّم في السوق السوداء، من خلال إنشاء شركة قطاع عام تقوم بتوزيع الخبز، ما قد يؤدّي، حسب عدد من المراقبين، إلى تمركز الفساد ونقله من دائرة «أصحاب المخابز» إلى دائرة «أصحاب النفوذ». آخر ما سمعنا به هو رفع سعر طن الدقيق المدعّم ليتجاوز سعر الطن في القطاع الخاص أيضاً للقضاء على «فساد أصحاب المخابز» بعدما تركته الحكومة ينتشر على مدار كل هذه السنوات.
إنه مشهد يجسّد خيارات النظام الاستراتيجيّة منذ عدة عقود؛ خيار الاستيراد، الذي يمثّل حجمه حوالى نصف الاستهلاك السنوي للقمح، (ومن ضمنه حوالى 20 في المئة من الولايات المتحدة)، الذي جعل أسعار الخبز المحلية ترتفع مع ارتفاع أسعار القمح العالمية، فيضطر من لا يقدر على تحمّل الزيادة إلى الالتحاق بطوابير العيش «أبو شلن».
إنّه مشهد لا تستريح له الدوائر الحكومية ولا الدوائر الأمنية. فكيف تستريح لمشهد يجعل كل مخابز البلد بؤر قلق محتملة قد تنفجر في أي لحظة؟ فاتّخذ النظام قرار إنتاج وتوزيع الخبز من خلال مخابز «الخدمة الوطنية» التابعة للجيش في أحياء القاهرة الشعبية، لعلّ وعسى يمتصّ الغضب الصاعد. فلم يفت أحد التشابه بين المشهد الراهن، وبين هذا الذي سبق اندلاع مظاهرات كانون الثاني / يناير 1977.
قد يتذكّر البعض أنّ السنتين السابقتين على «انتفاضة الخبز» شهدتا العديد من الاحتجاجات العمالية، كان من ضمنها إضراب كبير في المحلّة الكبرى سنة 1975. فكيف لا نربط بين هذه الأحداث، وبين إضرابَي عمّال المحلة الأخيرين في 2006 و2007؟
فلماذا لا ينذر هذه المرّة أيضاً مشهد «طوابير العيش»، الذي يحمل في طياته طيف المجاعة، بإمكان انفجار «انتفاضة خبز جديدة»؟
* صحافية مصرية