يوسف مونّس *إنّها الجمعة العظيمة. أهل أورشليم يركضون في الشوارع. رجل يحمل صليبه ويصعد على طريق الجلجلة ليموت. البعض آتٍ ليتفرّج والبعض الآخر ليبكي ويمسح بمنديله وجه البريء المحكوم عليه بالإعدام الذي يجرجر صليبه، وهو مدمى الوجه، والشوك ينغرز في رأسه وخشبة الصليب تنهش لحمه وعظامه. وآخر أتى يساعده على حمل صليبه وقد وقع تحته. الكلّ في حيرة ماذا فعل ليُصلَب؟ إنه البريء الابن الوحيد لأمّه. هو الذي سار على دروب أورشليم مطعِماً الجياع ساقياً العطاش شافياً المرضى.
هو أبرأ البرص، فتح عيون العُمي، أوقف نزيف الدم، أقام الأموات، زرع الرحمة في قلوب الناس والرقة واللطف على دروب الضعفاء. آكل المنبوذين، كسر الحدود، علّم المحبّة، محبّة الأعداء، والمغفرة والطوبى للرحماء. ألقي القبض عليه في البستان بعدما باعه يهوذا تلميذه بثلاثين من الفضة. هرب بقيّة الرسل والأصدقاء والأحبّاء. ساقوه إلى المحاكمة، تواطأوا عليه. جلده الجند حتى الموت. قضوا الليل يهزأون يتسلّون يسخرون منه. جُرِّد لحمه تحت السياط. وفي الصباح، تنقّلوا به من مكان لآخر. تنقّلوا به من قيافا، إلى حنانيا، إلى بيلاطس، إلى هيرودوس، إلى بيلاطوس. حُكِم عليه بالموت. غسَل يده من دم هذا البريء. هوذا الرجل خذوه فاصلبوه. نعم فليُصلَب. دمه علينا وعلى أولادنا. حمّلوه صليبه وساقوه كمجرم ولصّ على طريق أورشليم صعوداً إلى تلة الجلجلة.
كل مدينة هي أورشليم
أورشليم قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها! أورشليم إلى اليوم تقتل الأبرياء من الأطفال والرجال والنساء. كلّ مدينة في العالم اليوم هي أورشليم بسبب الدم والظلم والموت الذي فيها، بسبب الخطيئة القائمة في وسطها، وعليها ينزل الكبريت والنار لأنها أصبحت أختاً لمدينة لوط. إنّها المدينة الزانية التي تعبد الجسد والمال والمجد. وإنسانها هو أيضاً مدينة حمراء تشتعل فيه نار الشهوات والدنس والكذب والظلم والبغض وقساوة القلب. أهلها نحاس وعيونهم رصاص وهم قبور مكلّسة وهم حيّات أولاد أفاعٍ. فالويل لهم!
قتل البريء شفاءً لجراحنا
يريدون قتل البريء، السيد الابن الحبيب، حمل أوجاعنا وشفى أمراضنا، كسر السبت والشريعة لأجلنا من أسقط الحجارة من أيدي الفرّيسيّين الذين يريدون رجم الزانية أو يريدون رجمنا، من قال لنا سلام، سلام في قلوبنا وبيوتنا، في كياننا ووجودنا، من قال لعيوننا وقلوبنا ولإنسان الأعمى: «انفتح» وكان نور من جمع عظامنا المخلَّعة شفى نزف دمنا وبرصنا وأعادنا كالابن الضالّ إلى الحضن الوالدي فصالحنا وافتدانا وخلّصنا فقط لأنّه أحبّنا. أحبّنا مجّاناً وبذل نفسه عنّا. هو الذي في مجد الله الآب صار لعنة لأجلنا. ترك مجده. ترك مجده لأجلنا، بذل ذاته عنّا، صار كبش فداء وهو البريء، عن خطيئتنا. حمل صليبه، صار لعنة لأجلنا ومات عليه لأجل خلاصنا. ماذا يعني كل هذا الحب وبذل الذات، هذا «الكينوز» أي الإفراغ للذات حبّاً مجّانيّاً ليتغيّر مصير الإنسان. إنّه الحبّ المجّاني. أحب خاصته الذين في العالم حتى مات كفارة عنهم. طهّرهم بغسل دمه.
ملحمة الحب وجرح الحب النازف
إنّها الجمعة العظيمة. لكن هذا الحدث ليس هو بحدث يوم واحد. لقد ابتدأ الحدث الخلاصي العظيم منذ ابتداء يسوع بالصعود إلى أورشليم بين الحقول والزيتون والوزّال والليمون واللوز والجربان والبلان والشومر والربيع والزيزفون هو عائد من صور وصيدا على دروب الصرفند وقانا والجنوب وحرمون يعود وعلى ثيابه عطر زهر لبنان، ليصعد إلى أورشليم ليسلَّم للموت. لقد امتدّ الحدث الخلاصي العظيم منذ ابتدأ الصعود إلى أورشليم إلى العشاء السرّي العظيم نهار الخميس إلى الليل والوحشة والعراق دماً في بستان الزيتون والقبض عليه كلصّ والتجوال به من قاعة محكمة إلى قاعة محكمة أخرى في سخرية الاتهام والإحكام وتزوير القوانين وكذب ونفاق الشهود وصراخ الجماعة تنبح كالكلاب، إلى السبت، إلى الأحد، إلى العنصرة.
ساعة مات قام لاهوت المجد والفرح
إنّ طريق الجلجلة إلى الصلب إلى النزاع، إلى الطعن بالحرية، إلى سيلان الدم والماء، إلى الصراخ إلهي إلهي لماذا تركتني، أنا عطشان، لقد تمّ. إنه درب واحد ساعة مات قام. إنّه لاهوت المجد والفرح لا لاهوت النواح والحزن والبكاء والندب. الفرح يسكن الفجيعة. النور يشعّ في ظلمة القبر. السيد قام. القبر فارغ.
أُنزِل عن الصليب، ووُضع في القبر، وقام. ساعة مات قام. وهذا ما تجسّده أيقونة رابولا عن الصليب المغروز في القبر الفارع المفتوح والملاك يشير إلى النسوة، إنّه هناك في السماء، لا تطلبن الحيّ بين الأموات. وهذا أيضاً ما تشير إليه أيقونة القيامة البيزنطية حيث يبين الصليب مغروزاً في قلب الجحيم ويسوع القائم يأخذ بيد آدم وبيد حوّاء ويعيدهما إلى الحياة. هنا تُقرَع أجراس القيامة في قعر الموت والجحيم وتكسَر الأبواب وتخلَع جنبات الجحيم. فتسقط بابل القديمة ونأتي إلى مدينة الله كالقادمين من الحصاد والغلال.
الحدث القيامي حدث واحد. واحد هو منذ بداية العذاب والصلب والموت ودحرجة الحجر والقيامة، إلى العنصرة تمام الحضور الإلهي الثلاثي في الكنيسة جسد المسيح السرّي.
لاهوتياً الحدث واحد لا عدّ له في الزمن والأيام. زمنياً هو يتمّ في تعداد مع الناس لمنطق الزمن في ساعاتهم وأيامهم وحساباتهم. إنّه الزمن الكرونولوجي، أي الزمن الحاضر بالتتابع والتواصل لا الزمن اللاهوتي الحاضر كلّه لحظة واحدة متدفقاً كلّه شلالاً واحداً في لحظة بركانية لاهبة. منذ الحبل الإلهي إلى التجسّد إلى الصلب والموت والقيامة والانبعاث إلى حلول الروح القدس في تحوّل كامل لتاريخ البشرية والإنسان وعلاقته بالله. فالسلام عليه يوم وُلِد ويوم مات ويوم قام حيّاً.
انقلب معنى الصليب
هنا تأخذ كلمة «صُلِب لأجل خلاصنا» معنىً آخر. الصليب يأخذ في المسيحية في العهد الجديد معنى آخر. هو علامة الخلاص المميَّزة. وكلّ الرموز القديمة كسرت وهدمت. فبالصليب نتعمّد ونوسَم. طوال عمرنا نرسم إشارة الصليب على وجوهنا. الصليب هو رمز المسيحي المميَّز وهو يوجز البشارة المسيحية ويختصر لاهوتها كما يقول بولس في رسالته الأولى إلى أهل كورنتوس 2/2 «لا يريد أن يعرف إلاّ يسوع المسيح وإياه مصلوباً».
لكن الصليب في البداية كان عثرة وشكّاً ولعنة ومهانة «ملعون من علّق على خشبة». إنّه علامة الإثم والجريمة والمخالفة. لذلك هو ينتصب أمامنا كسؤال كبير نصطدم به في حياتنا الشخصية: إنه في المرض العضال الذي لا يرجى منه شفاء. إنّه في العذاب المرير الذي ليس له دواء. إنّه ساكن في الخيبات المرّة والإخفاقات الكاسرة للظهر. إنّه ضربات الشؤم والغدر والكوارث القاتلة. إنّه الموت المفجع. صليب يسوع نفسه هو مسألة معضلة عصيبة. هو البريء الذي لم يأتِ سوءاً. أسلم نفسه للموت القاسي لخلاصنا وليفتدينا قدّم ذاته كفارة عنّا لأنّه أحبنا وأحبنا مجّاناً للغاية. هو الذي يعطي المعنى لعذاب الأبرياء والأنقياء ويعطي معنى لصراخ «كامو» القائل في كتابه «الطاعون» إنه لا يستطيع أن يفهم إلهاً يعذّب الأطفال والأبرياء.
لذلك تحمّل لأجلنا قساوة السجن ومرارة خيانة الأصدقاء وهربهم والتخلّي عنه وإلصاقهم به الاتهامات والشهادات الكاذبة والكلام الكاذب ونار السخرية والازدراء ولسعات الشتم والسياط وإهمال الله، والجميع يصرخ: تعالوا ننظر حتى أتى به بيلاطس وكأنّه جمع في شخصه كل البشرية وكأنّ آلام الكون تجمّعت فيه وصرخ. «هوذا الرجل». هوذا الرجل في هذه الحالة الكارثية لأجلكم، وهو البريء لأجل الكثيرين يبذل ذاته حبّاً. ولم يصنع أي إثم أو أية خطيئة. الصليب هنا يأخذ كلّ معناه الخلاصي في ملحمة الحب والبذل والعطاء: «ما من حب أعظم من هذا» وصار الصليب حباً مخلصاً وتحوّلت اللعنة كما في غلاطية (3/13) من علامة العار والاحتقار إلى نهر خلاصي فدائي جارف يظهر محبّة الله للبشرية الذي ترك ابنه الحبيب يموت لأجل خلاصنا. بصليب يسوع صالحنا الله. إنها دلالة محبة الله المتجرّدة عن ذاتها. هذا هو صوت المحبة: حمل آلامنا، طعن بسببنا سحق لأجل آثامنا. هو حمل خطايا كثيرين. إنه الكفارة البريئة، الذبيحة النقية. إنّه التعويض الإلهي عن جرح خطيئتنا في كينونتنا الآثمة.
مجد المحبة
هنا يصبح للعنة الصليب معنى مجد المحبة. إنّه معنى وجودي كياني. فمن أراد أن يحبّ يسوع فعليه أن يتبعه حاملاً صليبه، أي حاملاً المحبة ونحن نحمل في أجسادنا يسوع كما يقول بولس: موت يسوع لتظهر حياة يسوع في أجسادنا ونعطي معنى للألم والوجع والموت والحياة، ونكمّل في أجسادنا ما نقص من الآم يسوع. يا لمجد رسالتنا في معطوبية وجودنا الفاني.
فلنلتزم الصليب أي نلتزم يسوع. نلتزم المحبة والقيامة فلا معنى للمسيحيّة من دون الصليب المغروز في القبر الفارع كما في انجيل ربولا حيث تعلن الأيقونة أنّه ساعة مات قام وكما هو أيضاً في الأيقونة البيزنطية: صليب يسوع القائم من الموت مغروز فوق الجحيم وله تعطي القيامة كلّ مجد الحبّ والخلاص والفداء. يوم الجمعة عظيم. هو يوم فيضان المحبة. ولا معنى لأي حياة مسيحية إلاّ في هذا الالتزام الكياني الوجودي، الصائر أيقونة للمحبة.
* أمين سر اللجنة الأسقفية لوسائل الإعلام