نهلة الشهال *... وإسرائيل مدعوّة كذلك لتكون ضيف شرف معرض الكتاب في تورينو الإيطالية، في شهر أيار المقبل. وفي الحالتين، فإنّ الاحتفاء ليس بالإبداع أو الأدب الإسرائيليين، كما باتت تقول اليوم اللجان المنظمة في البلدين لتدرأ عنها فظاعة الخيار الذي ارتكبته، ولتشوّه الأصوات المعترضة، بل بمناسبة «الذكرى الستين لاستقلال إسرائيل»، كما حددت الدعوات الأصلية التي لم يمض بعد عليها وقت كبير كي يأمل أصحابها الاستفادة من نعمة النسيان... رغم التغير الحاصل في مفهوم الزمن، مع انتشار التقنيات التي تسمح بتقليصه وطيّه بوتائر بالغة السرعة، ورغم أن الكذب الذي كان دوماً «ملح الرجال»، قد بات اليــوم بناءً سياسياً وإعلامياً متكاملاً، علماً وفناً يدرّسان، ولكن هذه قصة أخرى. كما هي قصة أخرى تلك الصيغة عن «استقلال» إسرائيل، لا تأسيسها، التي تبيح تساؤلات من نوع: استقلال عمّن؟ وهي بالطبع ليست خطأً مطبعياً أو زلة لسان، بل تستهدف إدخال فكرة في الوعي الجمعي بأن إسرائيل كانت موجودة قبل 1948، واستقلت في ذلك التاريخ، وأن الحركة الصهيونية التي أنشأت تلك الدولة هي «حركة تحرر وطني»، كما تعرّف نفسها.
انعقد إذاً المعرض الباريسي بين 14 و19 آذار، وشاركت فيه إسرائيل بوفد رسمي ضم 38 كاتباً، إلا الشاعر المرموق أهارون شبطاي الذي رفض الحضور كممثل لبلد يمارس العدوان والاحتلال، بل هو «يمارس اليوم، في هذه اللحظة، جرائم ضد الإنسانية» كما قال، مضيفاً أن «المناسبة ليست أدبية بل هي للبروباغندا». كان مقياس انتقاء أعضاء الوفد استخدام العبرية في كتاباتهم، مما يعني مسبقاً استبعاد الكتّاب الذين يستخدمون العربية، أكانوا عرباً أم يهوداً. وقُدّم هذا الأمر على أنه حصيلة نقاش عويص وحيرة، لأن إسرائيل، أيها السادة، متنوعة كما تعرفون، فيها كل لغات الأرض، بل ثمة صحف فرنسية تكلمت بنبرة نوستالجية عن «بابل»! بل إسرائيل، أيها السادة، متماسكة ضمن هذا التنوع حول «المعجزة» اللغوية، أي التمكن خلال فترة زمنية قصيرة في عمر الأمم، من تركيب عبرية حديثة وتسييدها، تمزج بين مصادر عديدة. أليس ذلك مؤثّراً حقاً! غابت عن النقاش إذاً كلمات شبطاي تلك، وما يشهد عليه الجميع من مجازر إسرائيل. وغاب فعل الاحتلال فأصبح تفصيلاً لا يُذكر، وإن ذكر، يُمرّ عليه بخفة من يتكلم عن الطقس أو اختلاف الأذواق في المأكل. وقد ساهمت بعض الأصوات الأدبية العربية في جعل هذه الحالة ممكنة، إذ استنكرت «الدعوات لمقاطعة الفكر والأدب»، وتجاهلت مناسبة الدعوة، كما حيثيات الاحتفال الذي افتتحه شمعون بيريز لا عاموس عوز! أهي مخالفة للديموقراطية والتحضر، الإشارة إلى مبلغ التزوير الذي يحمله موقف هؤلاء المثقفين العرب، ومنهم من صرّح شفهياً إلى وسائل الإعلام، ومنهم من كتب في كبريات الصحف الفرنسية التي سارعت على غير عادتها إلى نشر مقالاتهم، بل راحت تكلّف بعضهم بالإدلاء برأيه، مستحقاً بذلك احتلال مكانه بين القوم المتحضرين... أيحق لنا القول دون أن نبدو همجاً متطرفين، إن هؤلاء المثقفين العرب افتعلوا براءة في إجاباتهم لا مكان لها، بل هي متّسقة تماماً مع المحاججات التي كانت تُلقي بها في السوق الماكينة الدعاوية الصهيونية القديرة والعاملة بطاقة هائلة؟
لقد خرجت أصوات تدعو إلى مقاطعة المناسبة، وهو موقف رمزي بالطبع، لن يعطل المعرض، كما يلاحظ عن حق منتقدوه ممن لا يوافقون بالمقابل على خيار إسرائيل كضيف شرف، ولكنهم يقعون فريسة أحد عناصر المنطق الطاغي، والمستعار من قوانين السوق، أي الربحية والفاعلية. وهذه اعتبارات يجب، بالطبع على الدوام، التنبه إليها وقياسها، ولكن دون تحويلها إلى مطلق يُعبد ويلغي كل أبعاد الفعل والوجود الإنسانيين، ومنها أهمية المواقف الرمزية والمبدئية.
ولكن المطلوب هو الوصول إلى موقف يمزج في آن بين المبادئ والاستراتيجيا والميكانيزمات، وهي المستويات الثلاثة التي يفترض افتكارها في أي عمل عام، فغياب واحد منها يؤدي إلى تشوّه العمل بالضرورة. وهي ليست واحداً، فلا يكفي أن يكون المبدأ مثلاً واضحاً كي يتم اقتصاد المستويين الآخرين أو الاستخفاف بهما، وهو الانحراف الذي تعاني منه كثيراً الحركات النضالية. كما أن تغليب المستويين الآخرين ينتج تحركات سمتها الانتهازية، أو هي فريسة سهلة لها. وقد توصلت بعض المجموعات العاملة في حقل نصرة نضال الشعب الفلسطيني في فرنسا، إلى تكوين مقاربة لكيفية التعامل مع حدث معرض الكتاب، يأخذ في اعتباره ضرورة بناء موقف على أساس انسجام تلك المستويات الثلاثة، وأيضاً، وهو أمر لا يقل أهمية عن سابقه، يدخل «خطة العدو» كجزء عضوي من حساباته، أي يدرك مقدار طغيان الديماغوجيا في فرنسا حين يتعلق الأمر بإسرائيل، ومبلغ قوة حضور مجموعات صهيونية فاعلة في مراكز حساسة وبخاصة الإعلام، ومبلغ نجاح الابتزاز، بل الإرهاب الصهيوني للفرنسيين حين يستخدِم تهمة «معاداة السامية» في كل مناسبة، هذا علاوة على الانحراف يميناً، والإحباط وانعدام النضالية، الذي وقع رويداً، وظهر بجلاء في السنوات الأخيرة، والذي لا يطال التعامل مع المسألة الفلسطينية فحسب...
وباعتبار ذلك كله، جرت صياغة خطة عمل تقوم على تنظيم فاعلية مضادة، تنطلق من مناسبة معرض الكتاب نفسه، فاستُئجر موقع داخل المعرض لدار نشر «لافابريك» التي تخصصت في التعريف بالكتّاب الإسرائيليين المناهضين للصهيونية، وأصدرت كتاباتهم وفق برنامج نشر يثير الإعجاب في تماسك فكرته، لا سيما حين يضاف إلى ذلك تواضع الإمكانات المالية لهذه الدار. لافابريك أصدرت، من بين أشياء أخرى تندرج كلها في سياق منسجم، كتب نورمان فنكلشتين، وميشال فارشافسكي، وإيلان بابه، وأمنون راز، وأميرة هاس، وإسحاق لاهور، ورشيد خالدي، وكتاب «من بيروت إلى جنين»، وهو شهادات الجنود الإسرائيليين الذين تحوّلوا إلى رافضين للخدمة العسكرية، هذا علاوة على كتاب طارق علي «بوش في بابل»، وأخيراً كتاب ضخم عنوانه «الفتيات المحجبات يتكلمن». كما تتولى الدار إصدار مجلة «من الجهة الأخرى» المميزة مضموناً وإخراجاً، وهي فصلية الاتحاد اليهودي الفرنسي للسلام، المنظمة المناهضة للصهيونية التي تعارض «ادعاء إسرائيل النطق باسم يهود العالم».
وضعت الفاعلية تحت عنوان «ستون عاماً على نكبة فلسطين»، وقد تزين موقع «لافابريك» داخل المعرض بلوحات جدارية غطت أرجاءه، تظهر الحواجز الإسرائيلية التي تقطّع أوصال الضفة الغربية، ومشاهد من المواجهات اليومية بين الناس في فلسطين وقوات الاحتلال. كما دعت الدار، بالاتفاق مع جمعيات أخرى، خمسة كتّاب ممن أصدرت أعمالهم، هم ميشال فارشافسكي وكتابه الأخير «برمجة الكارثة»، وإيال وايزمان المعماري صاحب كتاب «هندسة الحروب المدينية الجديدة» وأميرة هاس مراسلة هآرتس التي عاشت عشر سنوات في غزة وأصدرت «اشرب البحر في غزة»، وايال سيفان صاحب الفيلم الوثائقي «الطريق 181» الذي سجل وقائع السلب الصهيوني لفلسطين في 1948، وأخيراً جمال زحالقة عضو الكنيست ورئيس الكتلة البرلمانية للتجمع الوطني الديموقراطي الذي أجرت معه الدار مقابلة طويلة صدرت في كرّاس، فكان ذلك أشبه بالوفد المضاد للوفد الإسرائيلي الرسمي، ولحظة لقاء جماعية نادرة لهم جميعاً في مكان واحد وفي مناسبة واحدة، مما يعطي حضورهم ثقلاً أكيداً. عقدت المجموعة ثلاث ندوات، واحدة في معهد الدراسات السياسية العريق، وأخرى في فرع باريسي لجامعة كولومبيا الأميركية، وأخيرة داخل معرض الكتاب نفسه، كانت جميعها حاشدة وأثارت نقاطاً جوهرية عن التزام المثقفين، وسؤال دولة واحدة في فلسطين لكل مواطنيها من عرب ويهود، والصهيونية والمؤرخين الجدد... الذين اكتشفوا ما كان يعرفه تماماً الفلسطينيون وعاشوه.
لا شك في أن خطة العمل هذه لا توازي في قدرتها على الحضور الإعلامي والتغطية الدعاوية ما حظي به الحضور الإسرائيلي الذي احتل صدارة الصحف والبرامج التلفزيونية والإذاعية، ولا شك في أن الخطط المضادة لا يمكن أن تكون نتاج رد فعل يسعى لمعالجة الأحداث بمنطق التحرك الطارئ، بل تحتاج إلى عقلية مؤسساتية تحقق التراكم. ولكن، على الرغم من هذه النواقص، وعلى الرغم من اضطرار القائمين على المبادرة إلى مقاتلة الأصدقاء قبل الأعداء (حيث اعتاد العمل النضالي في مرحلة بؤسه الحالية على الثنائيات النابذة: مقاطعة أو مشاركة)، فإن ما نُفذ هذه المرة، بإمكانات بشرية ومالية متواضعة، كان ناجحاً تماماً، لأنه سجّل لحظة مقاومة للواقع القائم تميّزت بامتلاك ملامح ومميزات الملاءمة بين كل عناصر الفعل السياسي: المبادئ والاستراتيجيا والآليات
والأدوات!
* كاتبة لبنانيّة