سعد الله مزرعاني *في 14 آذار الماضي، وهو يوم ذكرى ذات شأن في مسار الأزمة اللبنانية، أعلنت «قوى 14 آذار» «ورقة العمل الافتتاحية» لمؤتمرها الأول «ربيع لبنان 2008». الورقة مفتوحة للنقاش، في مسار مؤتمري ممتدّ حتى الصيف المقبل، كما أُعلن. وهذا، في الواقع، عامل تخفيفي في الحكم سلباً، على رؤية قوى 14 آذار وسياساتها فيما لو كانت الورقة التي أذاعها الدكتور فارس سعيد في المؤتمر المذكور، هي الصياغة النهائية للقوى المذكورة.
لماذا نبادر إلى هذه السلبية في التعامل مع الورقة الافتتاحية؟ لأسباب كثيرة، للأسف، وهي تطاول التوصيف والاستنتاجات جميعها تقريباً، لولا بعض «الهفوات» التي اخترقت النص، وجاءت يتيمة ودخيلة أو مسقطة. ونقصد هنا الفقرة التي قالت بضرورة «تثبيت استقلالنا من خلال تأمين الوحدة الوطنية التي هي شرط الاستقلال عن الخارج... ويتطلب هذا الأمر تجاوز الصراعات الطائفية التي أدمت وطننا على مدى نصف قرن... إن قيام دولة ديموقراطية، حديثة، مدنية، محرّرة من القيود الطائفية ومن الزبائنية التي تنتج عنها والتي تعيق عمل مؤسّساتها وتلغي مبدأ الكفاءة... يحرّر الطوائف من (عقدة الخوف من الآخر) التي تقع في أساس كل السياسات الطائفية، بذلك لا يعود الآخر خصماً تنبغي مواجهته باستمرار، لأنه يمثّل خطراً وجودياً على الذات، بل يصبح عنصراً مكملاً وضرورياً للذات...».
لا نستطيع أن نتّهم «حركة اليسار الديموقراطي» بتحقيق هذا «الاختراق»! فهذه الحركة قد تخلّت بالكامل عن كل تمايز، أو دور خاص، أو نقدي، مؤثرةً سلامة الالتحاق ومنافعه، على متاعب
الموقف المستقل ومواجعه.
على الأرجح، يعود الفضل في إدخال هذه الفقرة، إلى ممثلي حركة «التجدد الديموقراطي»، وهي حركة واجهت، بدورها، مشكلة كبيرة في الحفاظ على الكثير من المنطلقات التي أسست لمسيرتها منذ سنوات
عدة.
بالعودة إلى الأساسي في النص، نقع على فجوات خطيرة في التحليل وفي الاستنتاج، كما أسلفنا. فليس في المنطقة مشروع أميركي، وليس فيها قواعد وأساطيل وحاملات طائرات و«نيوجرسي». وليس في العراق 170 ألف جندي يحتلون هذا البلد منذ خمس سنوات، وقد حوّلوه إلى جحيم لم يعرف التاريخ له مثيلاً! وليس في المنطقة أيضاً صراع عربي ـ إسرائيلي، وإسرائيل لم تحتل فلسطين على مراحل متعددة من الاغتصاب والعدوان، ولم تشرّد الشعب الفلسطيني في أربع رياح الأرض ومنها لبنان (لم يجر تناول خطر التوطين كمسألة قائمة بذاتها، وكان سمير جعجع يطمئن اللبنانيين كل يوم من واشنطن، إلى أن الإدارة الأميركية تتبنى مواقفه نفسها من هذا الأمر!). كذلك، ليس في لبنان مشكلة أراض ما زالت محتلة، وأسرى ما زالوا محتجزين.... حتى القرار 1701، لم يرد في ذهن أحد، ربما بسبب أنه يذكّر باستمرار صراع لبناني ـ إسرائيلي، وهذا ما يجب تناسيه إذا تعذّر
نسيانه!
ماذا في المنطقة، وفي لبنان، حسب الوثيقة: هناك معركة تدور «في عالمنا العربي للخروج من الاصطفافات السياسية والفكرية التي فرضتها الحرب الباردة طوال أكثر من نصف قرن»، حيث «يتواجه العالم العربي في سعيه إلى إعادة تكونه السياسي، بقوى إقليمية (إسرائيل وإيران) تحاول إبقاءه على ما كان عليه، والحلول مكان الدول الكبرى في التحكم بمصيره».
ويرى أصحاب مشروع الوثيقة أن هناك «تواطؤاً» بين إيران وإسرائيل ضدّ العرب. و«لعلّ الوجه الأبرز لهذا التواطؤ هو الحماية الدولية التي تعمل إسرائيل على توفيرها للنظام السوري في حربه على لبنان». ويصبح الموقف اللبناني المطلوب (وهو بمثابة قرار في مشروع الوثيقة)، «ملاقاة دعم التحوّل الجاري في العالم العربي، حيث بدأت ترتسم معالم نظام إقليمي عربي جديد وحديث، بعيداً من الديماغوجية السابقة».
ويمكن الافتراض هنا أن المقصود بذلك هو نظام «شرق أوسطي جديد» يضم قوى «الاعتدال» العربية، ويضمّ أيضاً إسرائيل! أمّا «الديماغوجية السابقة»، فهي حسب وثيقة 14 آذار، باستمرار الأخذ بمفاهيم مرحلة الحرب الباردة وأفكارها وسياساتها. ومن ذلك القول بوجود مشروع هيمنة أميركي، وبوجود مشروع عدواني إسرائيلي للتوسّع والسيطرة، وبضرورة مقاومة هذين المشروعين المتحالفين، عبر كلّ الأشكال المشروعة والمتاحة والضرورية: من المقاومة العسكرية والسياسية والاقتصادية والإعلامية والحضارية...
«الالتزام بالمعركة الدائرة في عالمنا العربي» هو إذاً إعلان انتماء إلى محور «الاعتدال العربي» الحليف أو التابع للإدارة الأميركية. ولئن جاء هذا الإعلان هنا، خجولاً، فالمواقف والتصرفات والتصريحات، لم تكن كذلك. وما زالت في الأذهان تلك الصراحة التي بلغت حد الوقاحة، في الترحيب من قبل أقطاب في قوى 14 آذار بالسفن الحربية الأميركية قبالة الشواطئ اللبنانية، وقبل ذلك، دعوة واشنطن إلى احتلال مزيد من البلدان العربية! أما ما حصدته القائمة بأعمال السفارة الأميركية في «مؤتمر ربيع 2008»، فقد فاقت دلالاته كل وصف مهما بلغ من البلاغة أو البلاهة على حد
سواء!
وفي الشأن الداخلي، نقع وسط مخاطبة تحرص على التدثّر بفصاحة شكلية، وعلى كمية من التناقضات، تذهب أوّل ما تذهب، بذلك «الاختراق» أو الاستثناء اللذين تحدثنا عنهما في بداية هذه المقالة:
ـ من جهة، لبنان «تجربة فريدة في العيش المشترك»، ومن جهة ثانية، الاعتراف بأن أربعة وستين عاماً، هي «عمر الجمهورية اللبنانية المستقلة»، قد توزعت، نصفاً بنصف، على «حرب واحتلالات تخللتها فترات من الهدوء»، أو على «سنوات سلام شابتها توترات وأزمات».
ـ من جهة، يجري تحميل مسؤولية العنف وتحويل لبنان إلى ساحة، إلى القوى الإقليمية والخارجية، ومن جهة أخرى، يجري الاعتراف بما هو عليه لبنان واللبنانيون من «الانقسام الحاد» الذي لم يبلغ هذه الدرجة في أي يوم «في تاريخه الحديث».
لا يلتفت كاتبو النص إلى هذا التناقض، ما دام الهدف هو إعفاء النظام الطائفي من نصيبه في «الانقسام الحاد» وغير المسبوق، وإعلان مسؤولية، شبه حصرية، لسوريا عن كل مصاعب لبنان واللبنانيين ومصائبهم.
ـ والتناقض يصل سريعاً إلى مسائل التكوين السياسي اللبناني والصراعات الدائرة حول التسويات والحصص. فمن جهة، يجري، بعد الحديث عن حجم الانقسام، التأكيد أن المسؤولية تقع حصرياً أيضاً على الفريق الخصم. ومن جهة ثانية، تنتهي الوثيقة بتكرار الدعوة إلى «تخطي الخلافات والمشاركة في تحديد مصيرنا المشترك».
هذا أيضاً، ليس من قبيل التناقض البسيط أو الناجم عن تجاهل أو جهل. إنه ثمرة جملة تناقضات قائمة فعلاً، ما بين مكوّنات فريق 14 آذار من جهة، وثمرة عجز بلاغة الصياغة، عن حجب مأزق السياسات والتحالفات والتوجهات، من جهة أخرى. فمن المعروف أن أطرافاً في هذا الفريق لم تصل بعد إلى إدارة الظهر للتسويات، كما يجاهر غيرها ممن أعلن: «العلاقة مع حزب الله، قد بلغت مرحلة اللاعودة» أو «الطلاق»، كما عبّر قبل ذلك وليد جنبلاط نفسه.
ـــ في الموضوع السوري (وشريكه الإيراني)، نقع على تناقض شبيه. فمن جهة يجري اتهام فريق 8 آذار بالمشاركة في محاولة «تحويل لبنان إلى مقاطعة سورية»، ومن جهة أخرى، يجري تضمين فقرة سابقة دعوة «لطي صفحة الماضي مع سوريا وتطبيع العلاقات معها». لكن الشرط هنا، هو، «عودة النظام السوري إلى الحظيرة العربية، بعدما تحوّل إلى حصان طروادة في مواجهة العالم العربي».
ينطبق هذا التناقض أيضاً على مسائل «المقاومة»، و«الثقافة» في ما بين «الفصل والوصل»... لنقع على وثيقة مفاجئة في عجزها عن تقديم أي مساهمة إيجابية جديدة في كشف حقيقة أزمات لبنان والمنطقة، وفي اقتراح الحلول والتسويات والمعالجات لها، وهذا ما سنتناوله في مقالة لاحقة.
* كاتب وسياسي لبناني