«الأنذال» تسلّموا الحكم ليرسموا وجه الغرب المحتمَلياسين تملالي
صدرت «جغرافية الخطر» (1) للمرّة الأولى في باريس عن دار «ناييف» (2007) ونشرتها أخيراً دار «أبيك» في طبعة جزائريّة. وقد حظيت في كل من فرنسا والجزائر باهتمام نقدي واسع (2)، بالنظر إلى موضوعها: معاناة المهاجرين السريين في «الإلدورادو الأوروبي».
وتروي «جغرافية الخطر» في شكل مونولوغ طويل قصّة تخفّي مهاجر سرّي جزائري في بلد أوروبي عديم الاسم، وإن كان شديد الشبه بفرنسا، منذ انتصار «الساركوزيّة» فيها وتحوّلها إلى إيديولوجيّة شرائح اجتماعية عريضة. في غرفته المظلمة، يحكي البطل تفاصيل حياته المنغلقة حتى أكثرها قبحاً، وفي جوّها الدامس العفن، جوّ الانعزال التام واستراق النظر إلى الجيران من وراء الستار، يغوص في تاريخه الشخصي، فيستذكر إبحاره نحو أوروبا من أحد سواحل المغرب وما حفلت به مغامرته من لقاءات إنسانيّة، كما يستذكر «ملحمة» أسرته: ارتقاءها أعلى المراتب وسقوطها إلى الحضيض إثر استيلاء «الأنذال» على مقاليد البلاد.
وليس «الخطر» في رواية حميد سقيف هو الوقوع في أيدي شرطة تبذل قصارى جهودها لملاحقة المهاجرين السريّين، كما لو كانوا مرّيخيّين يُعرَفون من تقوّس أحد أصابعهم أو من نور غريب يشعّ من أعينهم... ولا هو طرد البطل وتعرّضه في بلده الأصلي إلى شتّى أصناف التنكيل... الخطر فيها هو انتشار عداء الأجانب في أوروبا وتحوّله إلى ما يشبه معاداة اليهود التي اجتاحت فرنسا خلال الاحتلال النازي.
أمّا «جغرافيته»، فهي كما وصفها الكاتب في حوار صحافي «جغرافية اللاوجود، أي أن تختفي عن سطح العالم، كما بفعل معجزة، أن تتحوّل إلى لا أحد وأن تستمرّ بالرغم من ذلك في التنفّس والسير، مركّزاً قواك على شيء واحد هو الاستمرار في الحياة، بعيداً عمّا يذكّرك بأنّك عديم الوجود والاسم والهوية».
وتفرد الرواية فصلين كاملين لرحلة البطل نحو جنان أوروبا المزعومة، غير أنّها بعيدة عن أن تكون «قصّة عن الهجرة السرية» (3)، فكاتبها تجنّب تغليب الصبغة الوثائقيّة عليها وفضّل التركيز على حياة المهاجر المتخفّي في ما لها من مميّزات عابرة للزمان، في ما يسبّبه ضيق الحيّز المكاني من انطلاق للمخيّلة وما تخلقه العزلة من رغبة في التماهي مع الآخرين.
وتحفل «جغرافية الخطر» ــــ وخصوصاً في وصفها البوليس باحثاً عن المهاجرين، كما لو كانوا كائنات فضائيّة تهدّد البشر بالانقراض ــــ بأصداء مدوية من قصص الخيال العلمي. فأوروبا الموصوفة فيها ليست بالضبط أوروبا الحاليّة. هي قارّة لا أمل فيها للمهاجرين في ركوب المترو أو الاشتغال في أحد الأقبية العفنة، فضلاً عن التظاهر للمطالبة «بتسوية وضعهم القانوني». هي قارّة استكمل فيها اليمين اندماجه مع اليمين المتطرّف، وانسحب فيها اليسار من مواقعه بذريعة الواقعيّة. هي قارّة تذكّر بـ«فيشي» وبتحوّل الملايين من الفرنسيّين إلى مخبرين، كل همّهم التحقّق من يهودية جيرانهم لتسهيل ترحيلهم إلى معسكر أوشفيتز.
وبالرغم من جوّ الخيال العلمي الذي يطبع الرواية، لا تبدو أوروبا فيها مكاناً خيالياً مئة في المئة: ألم يقترح بعض السياسيّين السويسريّين منع المهاجرين السريّين من الزواج بمن يحمل الجنسية السويسرية إذا ما رفض طلبهم للحصول على اللجوء السياسي؟ أوروبا «جغرافية الخطر» مكان مستشرف مستقبليّاً إلا أنه في الوقت نفسه مكان واقعي: إنّه وجه الغرب المحتمل بعد بضعة عقود إن لم يكن بعد بضع سنين.
ويرفض حميد سقيف رفضاً قاطعاً أن ينعت بـ«الكاتب الملتزم»، إلا أنّه بدا كذلك في خاتمة روايته. ففصلها الأخير خطاب سياسي عنيف يذكّر أوروبا بمسؤوليّتها عن أزمات جيرانها «الجنوبيّين»، ويصوّر الهجرة السرية إليها على أنّها أحد وجوه انتقام الضعيف من القوي. يقول البطل محذّراً «قارّة الأغنياء» من أن تشريعاتها البوليسيّة لن توقف موجة نزوح الفقراء: «تقصفوننا ببذخكم وترفكم، يسيل بذخكم على شاشاتنا سيلاناً، وتريدوننا أن نبقى هنا جالسين، متقاعدين منذ نعومة أظفارنا، على بعد بضعة كيلومترات من معالفكم؟ تغلقون أبوابكم في وجوهنا وتشيّدون الجدران (...) لكننا نتحدّاكم: سنهزم كل الجدران. جيشنا على الضفة الأخرى جاهز لكلّ أشكال الجرأة والإقدام. وفي كلّ ليلة ستضنيكم إحدى كتائبه، ستضنيكم لا في شيء سوى حساب قتلاها (...). وإذا وجدتم في جثثنا ديداناً بيضاء، لا تفرّطوا بها، تكفّلوا بها، وستتحوّل يوماً إلى يرقات وفراشات، إلى ألف مسخ ستغزو السماء باحثة عن أرواحنا، نحن المنبوذين».
(1) وُلِد حميد سقيف في وهران (الجزائر) عام 1951، وهو من أبرز الأدباء الجزائريّين الذين يكتبون بالفرنسية. ويعيش حالياً في هامبورغ (ألمانيا) منذ سنة 1997.
(2) أحرز حميد سقيف في 2007 جائزتين هما «جائزة الرواية الفرنكوفونية» و«جائزة جمعية الكتاب الفرنكوفونيّين».
(3) من الروايات الجزائرية الحديثة التي تتطرّق إلى موضوع الهجرة السرية «حراقة» (Harragua) لبوعلام صنصال، و«من لا قدر لهم» (Les sans-destin) لكمال بوعياد.
* كاتب جزائري


العنوان الأصلي
La géographie
du danger
الكاتب
حميد سقيف
الناشر
Apic