سعد الله مزرعاني *في مقالة سابقة («الأخبار» 25/3/2008) تناولنا «ورقة العمل الافتتاحية» التي قدمت في المؤتمر الأول «ربيع لبنان 2008» لتحالف قوى 14 آذار. وقد لاحظنا أن الورقة تنطوي على فجوات خطيرة في التحليل وفي الاستنتاج، وعلى تناقضات تكاد تشمل جميع البنود والعناوين. لاحظنا أيضاً أن الوثيقة المذكورة اتسمت بعجز مدهش عن تقديم أي إسهام إيجابي في كشف حقيقة أزمات لبنان والمنطقة، وفي اقتراح التسويات والحلول لها، وخصوصاً على المستوى
اللبناني.
وهنا نواصل حوارنا، ما دامت قوى 14 آذار قد قررت أن مؤتمرها مفتوح حتى أوائل الصيف القادم. هذا رغم أن جدوى الحوار، تصبح في المناخ اللبناني السائد، موضع شك خطير، حيث إن ما نشهده غالباً، إنما هو «حوار طرشان»، إذ تسود لغة النفي والنفي المضاد، والأبيض والأسود، والخير والشر. وفي مجرى ذلك تتلاشى أو حتى تنعدم، الحدود الدنيا من الموضوعية، ومن احترام الوقائع والحقائق.
لقد كان الأحرى بفريق 14 آذار، أن يبدأ ورقته (وثيقته) بتقويم نشاطه ودوره وسياساته وعلاقاته، في السنوات الثلاث الماضية. ولو حصل ذلك (نأمل أن يستدرك في ورش العمل المنبثقة من لقاء «البيال»)، لكان على هذا الفريق، أن يطرح عنواناً كبيراً وخطيراً ومفصلياً ومحورياً من عناوين تجربته... هو العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية. والعلاقة هذه لم تكن مسألة عابرة، بل هي عامل ذو أولوية في التأثير وفي التقرير وفي التوجهات، إلى أبعد مدى. ونستطيع أن نميّز في هذه العلاقة بين مرحلتين: مرحلة أولى، هي مرحلة العمل المشترك بين قوى 14 آذار والإدارة الأميركية (وفرنسا) من أجل إخراج القوات السورية من لبنان، وإنهاء المنظومة السلطوية التي أقامتها القيادة السورية فيه. والمرحلة الثانية، هي مرحلة بناء السلطة البديلة، وهي تلك التي ما زالت قائمة حتى يومنا هذا، وإن بشكل مؤسسات ومواقع، شاغرة أو معطلّة أو منقوصة التمثيل والقدرة على ممارسة السلطة.
في المرحلة الأولى يمكن اعتبار التقاطع موضوعياً، بل ومنطقياً أيضاً! فلقد تم تنسيق جهود متنوعة في عمل موحّد، استناداً الى مصالح مشتركة، في إضعاف أو إنهاء نفوذ ووجود سوريا السياسي والعسكري، في لبنان.
إلا أن هذه المرحلة لم تكن، في الحقيقة، مجرد تقاطع أملته مصلحة مشتركة، في ظرف محدد، ولوقت محدود، كما كان ينبغي أن يحصل. لقد تكشفت عن خيار سياسي «معد ومتبلور ومستمر»، من فريق 14 آذار، للالتحاق بالسياسة الأميركية ولإلحاق لبنان بالمحور العربي والشرق أوسطي المتحالف معها.
ينظر البعض إلى هذا الخيار على أنه خيار إجباري، أي بوصفه ثمناً لا بد من دفعه من أجل إخراج سوريا من لبنان، ومن أجل حماية وتكريس الواقع السياسي والسلطوي الناشئ بعد الخروج السوري، السياسي والأمني والعسكري. ليس هذا الاستنتاج صحيحاً، فكيف بالمبالغة فيه إلى الحد الذي تحدث عنه، أخيراً، خبير خطير في شؤون هذه المرحلة، وهو السفير الأميركي السابق في لبنان جيفري فيلتمان. فقد لفت فيلتمان إلى وجود «بارانويا لبنانية متجذرة»، وهي عبارة عن عقدة أو هاجس لدى فريق 14 آذار، من أن يدفع هذا الفريق ثمن «تغيير سلوك» النظام السوري، عندما يحين أوان عقد صفقة ما بين الإدارة الأميركية وهذا النظام، حول الوضع في العراق.
نريد أن نقول إن «الثمن اللبناني» لواشنطن لقاء دعمها الحركة السياسية والشعبية التي رفعت شعار خروج القوات السورية، كان في الخروج نفسه فحسب، وهو لم يكن يستدعي، بالتالي، ثمناً لبنانياً إضافياً ومتواصلاً!
إن اعتماد مثل هذه المعادلة، كان يعني، بالفعل، عدم الحاجة الى الانخراط (بل والانخراط النشيط!) في تبرير السياسات الأميركية في المنطقة، وفي تنفيذ مقتضياتها في لبنان وعبره، وخصوصاً، ضد النظام السوري. إن الانتقال بالوضع اللبناني من الوصاية السورية إلى الوصاية الأميركية، والتطوع المفرط لتنفيذ السياسات الأميركية حيال الجارة السورية خصوصاً (الانتقال في العلاقة معها من الدفاع إلى الهجوم)، هو الذي أطاح الإيجابيات التي نشأت عن المرحلة الأولى، وهو الذي حوّل لبنان إلى ساحة صراع ضارٍ بين الولايات المتحدة والنظام السوري.
ولقد كان هذا القرار مبكراً، ومبكراً جداً، للأسف. وهو الذي حال، دون تغذية عناصر محتملة وواقعية، لبناء موقف لبناني موحّد حيال مسائل السيادة والاستقلال والحرية. ونستطيع أن نقول أيضاً، بكثير من الموضوعية، إن ذلك كان أحد الأسباب الأساسية للتصدع الكبير الذي عانته قوى 14 آذار، والذي تمثّل في خروج (أو إخراج) العماد ميشال عون وتياره الواسع من صفوف تلك الحركة. ومعروف الثمن الكبير الذي نجم عن ذلك: في إضعاف تلك الحركة وانقسامها، وفي تعزيز «الانقسام الحاد» بين اللبنانيين الذي لم يبلغ هذه الدرجة في أي يوم في «تاريخنا الحديث»، كما تقول الوثيقة!
أما الثمن الآخر، الذي يتكامل مع الأول ولا يقل عنه خطورة، إطلاقاً، فهو في إجهاض التسويات الداخلية، وإحباط العربي والخارجي منها أيضاً، ما دام الأساس الطبيعي والمنطقي لهذه التسويات جميعها، هو التعاون والمشاركة، لا التفرد والاستئثار.
والواقع الموضوعي يشير أيضاً، إلى أن مقاربة تستوحي بالأساس المصلحة الوطنية اللبنانية في بعديها الوطني والعربي، كان من شأنها تجنب الكثير من عوامل التوتر الأمني، وعدم الاستقرار، والأثمان والخسائر البشرية والمادية الباهظة المرافقة. هذا أيضاً فضلاً عن المخاطر المحدقة، وأخطرها الاحتراب الأهلي الذي تتوالد وتتناسل مقوماته يوماً بعد يوم!!
إن ارتباط فريق السلطة الراهنة بالمشروع الأميركي وموجباته، هو الذي أدى، بين أمور خطيرة أخرى، إلى تبرير الكثير من ردود الفعل السورية المشروعة وغير المشروعة، وإلى استدراج حركات متطرفة للعمل في لبنان... وبمعنى من المعاني أيضاً، شجع هذا الأمر الإسرائيليين على «العودة إلى لبنان» بصيغة عدوان شامل عام في تموز 2006. وقد بدا ذلك العدوان حلقة بديلة من محاولات داخلية متعثرة، ولتحقيق أهداف في لبنان ومن خلاله، تتناول خصوم السياسة الأميركية من قوى «الإرهاب» في فلسطين والعراق ولبنان...
ليس صحيحاً أن واشنطن تنظر إلى «لبنان كلبنان»، كما ذكر السفير الأميركي السابق. وهي حين تفعل ذلك، فإنما تُدهش حقاً، بسبب تلك المبالغة من فريق من اللبنانيين في أن يكون أميركياً أكثر من الأميركيين!
واشنطن تدير مشروع هيمنة في المنطقة بدأته باحتلال أفغانستان ثم العراق.
وإسرائيل تواصل عدوانها على الشعب الفلسطيني مدعومة من واشنطن. وكلتاهما تحاولان، بكل الوسائل والمزاعم والجرائم، إنجاح مشروعيهما. والارتباط بالإدارة الأميركية (على الأقل!)، هو عملية انخراط في مشروعها، ومن نتائجه حتماً، تحويل لبنان إلى ساحة صراع في صيغتي الفعل ورد الفعل، على النحو المدمر الذي يعانيه لبنان وشعبه، سياسياً واقتصادياً وأمنياً....
لقد أضاعت قوى 14 آذار فرصة تاريخية للإسهام في صنع العناصر الضرورية للحرية والسيادة والاستقلال. وهذه العناصر تكمن، بالدرجة الأولى، في التوحد اللبناني، وبالدرجة الثانية، في إصلاح النظام السياسي، وفي الدرجة الثالثة في إحلال لبنان موقعه الطبيعي في الصراع الدائر في المنطقة، معترضاً على المشاريع الأميركية الصهيونية للسيطرة عليها وعلى ثرواتها ومواقعها ومصائرها.
بيد أن المراجعة والتقويم على اختلاف في حجم الأخطاء والخطايا، ليست مطلوبة من فريق واحد. وهذا ما هو مطروح الآن على أطراف «المعارضة الوطنية»، من أجل صياغة مشروع وطني جذري وحقيقي للسيادة والحرية والعروبة والاستقلال!
* كاتب وسياسي لبناني