على وقع الانتصار الملحمي والاستراتيجي في كوباني ضد «داعش» والذي يمكن وصفه أنه بداية نهاية الفاشية الداعشية، دخلت الادارة الذاتية الديمقراطية في «روج آفا» عامها الثاني، فارضة نفسها الرقم الصعب والوازن في المعادلة السورية، وتالياً الاقليمية بوصفها الخندق الأول في الحرب الكونية ضد الارهاب الدولي، ونموذج الحل الديمقراطي الوحيد على الساحة السورية، ولبنة أولى تأسيسية في معمار سورية الديمقراطية التعددية اللا مركزية.
تلك الثلاثية التي تمثل كنه المشروع الحضاري الثوري الذي تجسده تجربة «روج آفا» الديمقراطية وتطرحه، فقبل عام في 21/ 1/ 2014 أعلنت ولادة الادارة الذاتية في كانتون الجزيرة، وبعدها في 27/ 1/ 2014 أعلنت في كانتون كوباني، ولتكتمل أضلاع مثلث الادارة عبر اعلانها في كانتون عفرين في 29 من الشهر ذاته.
ففي الذكرى السنوية الأولى لاعلان كانتون كوباني تم الاحتفاء بتحرير المدينة من «داعش»، وتتواصل حملة تطهير وتحرير ريفها، رغم الكم الهائل من الهجمات المنظمة على ثورة وتجربة روج آفا الديمقراطية المتعددة الأشكال والسبل من الهجمات الارهابية العسكرية من قبل «داعش» و«النصرة» وأخواتهما، فحرب «داعش» في كوباني مثلت، والحال هذه، ذروة المحاولات الهادفة الى اجهاض هذا النموذج الديمقراطي عبر السعي البائس الى احتلال كانتونات «روج آفا» وتقطيع أوصالها والتلاعب الديمغرافي والجغرافي بها.
والحال أن مقاومة كوباني كانت حرباً ضروساً بالمقاييس العسكرية والاستراتيجية كافة، وحرب وجود شكلت المحك لمدى تجذر الثورة ونموذجها: الادارة الذاتية الديمقراطية في البنى المجتمعية والشعبية في «روج آفا» عبر المقاومة بأسلحة خفيفة ومتوسطة أمام جيش ارهابي مدجج بأعتى الأسلحة وبدعم من قوى اقليمية على رأسها تركيا التي لم يكن خافياً دعمها اللوجستي والعسكري والاستخباري لداعش، فالانتصار التاريخي والاستراتيجي في كوباني يمثل فاصلة ونقطة تحول، ويؤسس لمرحلة جديدة.
ولعل اعلان موعد انتخابات البلديات والادارات المحلية خلال الشهرين القادمين خير دليل على أن هذه التجرية الواعدة والطموحة في عامها الجديد ستعمل على مأسسة نفسها أكثر فأكثر، وبالارتكان والاحتكام الى ارادة الناس وأصواتهم، وبمختلف مكونات «روج آفا» كرداً وعرباً وسرياناً وأرمناً...
وهنا فإن توقيع اتفاق دهوك بين حركة المجتمع الديمقراطي والمجلس الوطني الكردي وتفعيله يندرج في سياق اشراك مختلف القوى السياسية والمجتمعية في العملية والتجربة الديمقراطيتين في روج آفا، والاسهام التفاعلي الايجابي فيهما بدلاً من انكفاء بعضها وانزوائها على قارعة الحدث ومحاولة تشويه هذه التجربة عبثاً وبلا طائل.
فإرادة الحرية والمقاومة والدفاع عن القيم الكونية الحضارية في السلام والتعايش والتنوع وحق الشعوب في تقرير مصيرها وحقوق المرأة ستنتصر على أي حملة ارهابية جديدة يشنها «داعش» أو غير «داعش» ضد كانتونات الادارة الذاتية الديمقراطية.
ففي الوقت الذي تكشف فيه الربيع العربي عن خريف قاعدي وداعشي، وباتت شعوب المنطقة ومجتمعاتها بين فكي كماشة (إما النظم الاستبدادية الكلاسيكية أو البدائل الاسلاموية السياسية المعطوبة على تنويعاتها واختلاف طبعاتها) كان لثورة «روج آفا» بقيادة حركة المجتمع الديمقراطي كلمتها في اعتماد وسلك سياسة الخط الثالث الهادف الى بناء سورية ديمقراطية تعددية لا مركزية. الخط الثالث الذي ترجم عبر نموذج الادارة الذاتية الديمقراطية واقعاً ملموساً وحياً على الأرض وصالحاً لتطبيقه وتعميمه سورياً وكردستانياً وشرق أوسطياً.
نحن اذ رفضنا الانجرار منذ البدء الى فخاخ العسكرة والتطييف لإدراكنا حجم التعقيد الذي يتسم به الوضع السوري وتشابكه مع جملة ملفات اقليمية حساسة كالصراع العربي ــ الاسرائيلي والصراع المذهبي السني ــ الشيعي، فضلاً عن موقع سورية الاستراتيجي. ولكوننا نأينا بأنفسنا عن الدخول في الاحتراب الطائفي والصراع على السلطة على حساب عذابات السوريين وآمالهم في التحول الديمقراطي البنيوي الذي قلناها ونقولها للمرة الألف أن المحك لأي تحول ديمقراطي بنيوي وجذري في سورية هو حل القضية الكردية حلاً ديمقراطياً عادلاً، بما يتسق مع عدالة هذه القضية القومية الديمقراطية.
فلذلك كله، اتخذ «داعش» ومن يقف خلفه منا ومن تجربتنا العدو الأساس، وتكفي اطلالة سريعة على جبهات الاشتباك مع الدواعش أو «جنود الخلافة» (وكأننا ويا للسخرية السوداء نعيش حقبة انتعاش صناعة الدراما التاريخية العربية التي درجت قبل سنوات) لتبيّن حقيقة أن التنظيم ما هو إلا أداة لضرب تجربتنا ودورنا المحوري كطليعة القوى الديمقراطية. فكل هذا الاستهداف المبرمج والارهاب المنظم ضدنا هو لكوننا نطور ونقدم نموذجاً حياً مضاداً للفاشية الداعشية التي تحولت الى مخلب قط يستهدف المشروع التحرري الديمقراطي الكردستاني برمته.
فالتنظيم يخوض حرباً مفتوحة ضد الكرد وكردستان على امتداد أكثر من ألف وخمسمئة كيلومتر من عفرين في أقصى روج آفا - غرب كردستان، الى خانقين في اقصى باشور - جنوب كردستان بهدف اجهاض التجربتين الديمقراطيتين في روج آفا وفي باشور، والتي وصلت في استهدافاتها الى حد اعادة انتاج الابادات الجماعية بحق الكرد، كما شاهدنا في شنكال التي كان للادارة الذاتية الديمقراطية موقف مشرف في نجدتها عبر التدخل السريع لوحدات حماية المرأة والشعب. وتجدر الاشارة هنا الى مخيم نوروز الذي افتتحته سلطاتنا في الادارة الذاتية في منطقة ديريك والذي احتضن أهلنا الشنكاليين ممن تركوا ديارهم بعد غزو شنكال.
ولعل ما يفسر هذا الايغال الداعشي في محاربتنا هو أن «داعش» نتاج تزاوج النزعتين التكفيرية الاسلاموية في طبعتها الارهابية القاعدية والعنصرية العروبية في طبعتها الفاشية، فالدواعش البعثيون لا يقلون دوراً عن الدواعش القاعديين ولئن صح وصف داعش بكونه الطور النكوصي الأكثر انحطاطاً ودناءة لتنظيم القاعدة كونه خرج من رحمه عبر اعلان دولة «داعش» المسخ المكونة من تلاقح دولة العراق الاسلامية مع جبهة النصرة في بلاد الشام، يمكن نعتها في وصف آخر أنها البعث في لبوس اسلاموي، كانت السنوات الأخيرة من حكم صدام حسين أحد الآباء الروحيين للوعي الداعشي قد أُسّس له عبر الحملة الايمانية واضافة مفردة الله أكبر الى علم البعث العراقي بعد العدوان الثلاثيني الصليبي كما كانت تتبجح الرطانة البعثية بقيادة وزير الاعلام الصدامي محمد سعيد الصحاف دون أن تفوتنا الاشارة الى اطلاق اسم آية قرآنية قبل أكثر من ربع قرن على حملات الابادة الجماعية ضد الكرد حملات الأنفال والتي يعمل الدواعش الآن على بعثها واعادة احيائها بحقنا.
فلكوننا حافظنا على ثورتنا في «روج آفا» كثورة مجتمعية تسعى الى اسقاط البنية التحتية للاستبداد بحواضنه الفكرية والثقافية والمجتمعية كافة... والتي غدت بفعلها «روج آفا» المنطقة الوحيدة من سورية التي تقدم خريطة طريق للحل ووحدها بارقة الأمل والضوء الذي يبدد الظلام وانسداد الأفق لإنقاذ سورية والسوريين...
العالم كله من واشنطن وباريس الى موسكو أجمع على شجاعة مقاتلي ومقاتلات وحدات حماية الشعب والمرأة، وأثنى بانبهار على انتصارهم، ما خلا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي عاد لينفخ في القربة المثقوبة إياها بقرب الخطر الكردي المزعوم، في حين أن العالم كله بات يعرف أن الكرد (وبخاصة في روج آفا) يشكلون رأس حربة دمقرطة سورية والمنطقة عامة، وهم في الجبهة الأمامية في الحرب ضد الارهاب الدولي، وباتوا مضرب المثل في الثورة والمقاومة والدفاع عن المنظومة القيمية الحضارية الكونية.
نكمل عاماً من تجربتنا الرائدة التي لا شك قد تتخللتها عيوب ونواقص وأخطاء كونها تجربة وليدة وجديدة وسط محيط محتقن ومتفجر واحترابات وأجندات متضاربة ومتصارعة على سوريا، لكنها ولا شك تجربة جديرة بالاقتداء والتعميم ليس على الصعيد السوري فقط بل على صعيد أجزاء كردستان ومنطقة الشرق الأوسط كافة.
ويكفينا فخراً أنّ ثورة «روج آفا» وتجربتها الديمقراطية في الادارة الذاتية مشيدتان بدماء مئات الشهداء من وحدات حماية الشعب YPG ووحدات حماية المرأة YPJ (قرابة ألفي شهيد) وهي تدير مناطق مساحتها نحو 20 ألف كيلومتر مربع، توفر الأمن والحماية والخدمات الأساسية وتسيير شؤون الحياة اليومية لقرابة أربعة ملايين مواطن من مختلف المكونات، رغم الصعوبات والعراقيل وهي باتت مدرسة في ابتداع وبلورة أنماط وعي عصري وحضاري والقطع مع سائر أشكال الوعي الماضوي المحنط ولعل تمظهرها الأصدق والأكثر تعبيراً مشاركة المرأة في الثورة وفي الادارة الذاتية الديمقراطية، فمثلاً على صعيد وحدات الحماية وقوى الأسايش (الأمن) تصل نسبة النساء الى أكثر من الثلث بواقع 35 في المئة من مجموع العدد الاجمالي لقوات «روج آفا» والتي يناهز عديدها الخمسين ألف مقاتل ومقاتلة في صفوف القوة العسكرية الوحيدة على الأرض السورية المنضبطة والمدافعة عن الحرية والديمقراطية والملتزمة بأخلاقيات الحرب ومبادئ حقوق الانسان والعهود والمواثيق الدولية الناظمة للحروب، فضلاً عن اعتماد المناصفة بين الجنسين في شتى مضامير الادارة والسياسة والاجتماع، لا سيما عبر اقرار نظام الرئاسة المشتركة من الحاكمية المشتركة لمقاطعة الجزيرة مثلاً وتبوء سيدة رئاسة المجلس التنفيذي (ما يعادل رئاسة الوزراء) في كانتون عفرين الى الرئاسة المشتركة للمجالس التشريعية في الكانتونات الثلاثة، وصولاً حتى الى الرئاسة المشتركة في البلديات بما يكرس ثقافة التشارك والتكامل بين الجنسين من القاعدة الى القمة وبالعكس، الأمر الذي يعد ثورة اجتماعية كبرى لا نظير لها في المنطقة.
وحسبنا الاشارة هنا الى القانون الخاص بحقوق المرأة في «روج آفا»، حيث ينص مثلاً على المساواة بين شهادتي الجنسين من الناحية القانونية وإلغاء المهور ومنع تعدد الزوجات وتنظيم صكوك الزواج مدنياً واعتبار القتل بحجة «الشرف» جرائم جنائية كاملة الأركان ومنع تزويج الفتاة قبل بلوغها الثامنة عشرة، ما يعتبر نصاً تحررياً وتقدمياً وثورياً يؤسس لقفزة حضارية مجتمعية هائلة نحو الأمام ونحو مستقبل واعد ومتحرر من تركة قرون وقرون من الظلام والتخلف والجمود وسيادة النقل على العقل والتكلس على التطور واليقين على الشك، فضلاً عن ضمان حقوق مختلف المكونات القومية والدينية والمذهبية، فعلى سبيل المثال في كانتون الجزيرة ثمة ثلاث لغات رسمية (الكردية والعربية والسريانية).
التاريخ يصنع الآن في «روج آفا» وتجربتها الديمقراطية ستتطور وتتكرس، فالمستقبل لنا وليس لقاطعي رؤوس البشر وحارقيهم، وهم أحياء، ومستعبدي النساء وبائعيهن في أسواق النخاسة القذرة ولا للنظم الاستبدادية التي وصلت الى طريق مسدودة وانتهت صلاحيتها.
المستقبل للشعوب التي تستحق الحرية والديمقراطية والتقدم وضمان حقوق الجماعات والأفراد، ونموذجنا هو خطوة كبرى في اطار التأسيس لمنطقة متفاعلة مع المحيط والعالم ومتوثبة نحو المستقبل الانساني الخلاق.
رويداً رويداً أخذت تتقاطر الى «روج آفا» من شتى أصقاع العالم وفود صحافية واعلامية ومنظمات مجتمع مدني ومؤسسات غير حكومية ومراكز دراسات وصولاً الى وفود برلمانية وشخصيات دولية ودبلوماسية مرموقة، لعبت وما زالت دوراً مهماً في مطابخ صناعة القرار والرأي الدوليين.
فالانفتاح الدولي علينا يتوسع باضطراد والكثير من الأبواب السياسية والدبلوماسية تفتح على مصراعيها كوننا نقدم وجهاً حضارياً لسورية، ونموذجاً يسعى الى انتشالها من الهاوية وادراجها في العصر والعالم، لا العودة بها الى مجاهل ما قبل العصور الوسطى.
ولعل استقبال الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند للرفيقة آسيا عبد الله، الرئيسة المشتركة لحزب الاتحاد الديمقراطي PYD، والرفيقة نسرين عبد الله ممثلة عن وحدات حماية المرأة YPJ، يشكّل خطوة تأسيسية لهذا الاحتضان العالمي المأمول، فباريس كما لا يخفى قاطرة الاتحاد الأوروبي وعاصمة النور والحريات وهذا اللقاء يشكّل ولا شك فتحاً دبلوماسياً عظيماً ستتلوه فتوحات وفتوحات لن تكون بطبيعة الحال كمحاولات «فتوحات» داعش الفاشلة في «روج آفا»، وآخرها في كوباني أو عين الاسلام بلغة الارهابيين الدواعش.
(ورقة «الادارة الذاتية الديمقراطية» التي ستلقى في الحلقة النقاشية التي سينظمها «مركز القاهرة للدراسات الكردية» في العاصمة المصرية بعنوان «عام على نظام الادارة الذاتية في غرب كردستان»)
* كاتب كردي