كميل داغر *في كلمة افتتاح «اللقاء اليساري التشاوري» في أواسط شهر آذار الحالي، وقد ألقاها الأمين العام للقوة الأساسية التي دعت لانعقاده، المتمثلة بالحزب الشيوعي اللبناني، لاحظ خالد حدادة عمق المأزق البنيوي للنظام اللبناني، المتمثل بسقوط الصيغة التي حكمت التوازنات السياسية سابقاً، وعجز أهل النظام (في المعارضة كما في الموالاة) عن بلورة «مشروع جديد يحظى بإجماع اللبنانيين». وقد رأى تالياً أن ذلك يمثِّل دافعاً لالتقاء اليسار للخروج من هذا المأزق عبر بلورة صيغة جديدة يكون جوهرها «لبنان الوطن العربي الديموقراطي العلماني»، وتكون هكذا مشروعاً خاصاً بهذا اليسار.
وقبل مناقشة أعمال هذا اللقاء ومدى تناسبها مع التطلعات الأساسية التي كانت، على مدى سنوات، في خلفية انعقاده أخيراً، قد يكون مفيداً إبداء الملاحظات التالية:
ـ رغم أنه كان هناك توجه مسبق في المداولات التي سبقت الدعوة إلى اللقاء المشار إليه، لقصر حضوره على المنتمين إلى اليسار الماركسي، لم يكن ثمة التزام دقيق بهذا التوجه، بحيث أمكنت رؤية عديدين من خارج هذا الانتماء، وأحياناً في مواقع نقيضة له قد تكون أقرب إلى المعارضة البورجوازية، عموماً، ولكن أيضاً، وأحياناً أخرى، إلى... تيار المستقبل!! وهو أمر ترك بصماته في نتائج المداولات التي تمت في أكثر من واحدة من ورش العمل الأربع، وهي نتائج متواضعة بالتأكيد، يغلب عليها الطابع الإصلاحي.
ـ كان من نتائج الليبرالية، إذا صحّ التعبير، في الدعوات، ذلك الفرق الفاضح بين عدد حضور الجلسة الأولى، بعد ظهر السبت، وقد زاد على مئتين، وعدد حضور جلسات يوم الأحد، ذات المنحى العملي، ولم يكن يتجاوز الثمانين، في حده الأقصى.
ـ إن إصرار البعض خلال المداولات، الذي عبّر عن نفسه أيضاً في مقترحات اللجنة التي ناقشت أزمة اليسار اللبناني، على ضرورة الوصول إلى تعريف واضح ودقيق لمعنى اليسار، هو في محله، ولا بد من أن تتوصل اللجنة التحضيرية التي تقرر إنشاؤها لمتابعة أعمال اللقاء إلى بلورة اتفاق على هذه المسألة، لا يقبل الالتباس. وعديدون في صفوف من التقوا قبل أيام يتوقون، بالتأكيد، إلى أن تتصور اللجنة المشار إليها يساراً شديد الحرص على الاستقلال الطبقي، فكراً وسياسة وممارسة، وأبعد ما يكون عن خلط الرايات!
ماذا عن نتائج اللقاء الأوّلية؟
ربما كانت المشكلة الأشدّ نتوءاً في النقاشات التي تمّت داخل ورش العمل إنّما هي تغييب السمة الطبقية المطلوبة لتلك النقاشات وما تحمله من هموم. فالتناقض، إذا كان هنالك من تناقض، إنما هو فقط، بحسبها، بين «حيتان المال والمصارف» من جهة، و«المواطنين» و«ذوي الدخل المحدود» من جهة أخرى، والأزمة على المستوى الاقتصادي هي أزمة نسق تاريخي، ونتاج لنمط محدد اقتصرت محددات النمو فيه على رافعتين اثنتين هما الاستهلاك والمضاربة العقارية، وسط غياب القطاعات المنتجة (السفير ، 17 آذار 2008، ص 4).
بمعنى آخر، تغيب مسألة الصراع الطبقي، الذي لم يكن يوماً عند هذه الدرجة من الحدة والتفاقم، ولكن من جانب واحد، جانب الطبقة البورجوازية المحلية التابعة، والمرتهنة بعمق بالعولمة الرأسمالية والسياسات النيوليبرالية، في هذا الطور المتقدم من توحشها وهجومها، على المستوى العالمي، وبصورة أخص في بلد كلبنان. وهو بلد يخضع منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي، بصورة أساسية، لمشاريع مافيا مالية شديدة الخطورة، دمّرت بوجه خاص ما كانت طبقته العاملة تمتلك من أدوات دفاع طبقي، نقابية، وأدّت دوراً أساسياً، من ضمن تحالفها الوثيق مع أسياد الحرب وأمراء الطوائف، في تسريع سيرورة تمزّق منظّماتها السياسية وانحطاطها وترهّلها، وبالتالي تهميشها. وتحت غطاء كهذا، تمكّنت من تمرير مشاريعها الاقتصادية الكبرى، المتمثّلة في تحميل الشعب اللبناني ديوناً بلغت إلى الآن أكثر من خمسين ملياراً من الدولارات، بالتلازم مع سياسة نهب وهدر وإفساد بلغت حدودها القصوى، ومع توجّه جارف إلى إزالة آخر ما بقي هنالك من عوامل الحصانة الاقتصادية، عبر ما تسمّيه الحكومة الحالية ورقتها الإصلاحية، وبين عناوينها الأهمّ الخصخصة، وربط البلد بصورة كاملة بتوجيهات البنك وصندوق النقد الدوليين، وبمنظمة التجارة العالمية، وبالمزيد من مشاريع الاستدانة، من نمط ما تمخّضت عنه مؤتمرات باريس 1 و2، وأخيراً لا آخراً 3! فضلاً عن إضفاء الهشاشة على وضع ذوي الأجر، ولا سيما عبر اعتماد التعاقد الوظيفي، والسعي لتصفية معاشات التقاعد، والمضي في سياسة ضريبية جائرة تستهدف أساساً الغالبية الساحقة من الشعب الكادح، وما إلى ذلك. علماً بأن هذه السياسة عينها، على المستوى الاقتصادي، وما تمثله من مصالح، إنما هي عينها التي تدفع بهذه الطبقة في اتجاه التحالف الوثيق مع الإمبريالية الأميركية بخاصة، والعالمية عموماً، وحتى مع إسرائيل، على الأقل بصورة موضوعية، كما يظهر من مواقفها تجاه المسألة الوطنية والسلاح المقاوم.
وهكذا، وفيما يجري الامتناع عن تسليط الأضواء على مسؤولية البورجوازية التابعة المسيطرة محلياً عن هذه السيرورة القاتلة، يجري في الوقت عينه حجب الدور الذي يجب السعي لتمكين الطبقة النقيضة من الاضطلاع به، وهو بالضبط دور الطبقة العاملة اللبنانية في قيادة أي سيرورة لتجاوز الواقع الراهن للبلد الذي يتجه به بصورة حثيثة إلى الهاوية، سواء على المستوى الاقتصادي الاجتماعي أو على المستوى السياسي، ذلك أن ثمة تلازماً أقصى بين المستويين.
إن فكرة قيادة كهذه، لو أمكن أن تكون هي التي ألهمت أعمال لقائنا التشاوري الأخير، لكانت قد نجحت، على عكس ما حصل بالفعل، ليس فقط في بلورة رؤية أكثر جذرية بكثير لحقيقة التناقضات التي يعيشها البلد، بل كذلك للبرنامج، وسواء على المستوى الاقتصادي، أو على المستوى السياسي.
بهذا المعنى، كان أمكن أن تظهر، في المجال الأول، وفي هذا الطور من تدهور الأوضاع المعيشية الشامل لأوسع نسبة من أبناء الطبقات الشعبية، مطالب ذات طابع انتقالي تتناول بين ما تتناول:
1ـ إعادة نظر جذرية في هيكلية الحركة النقابية، والاتحاد العمالي العام في مقدمتها، وفق صيغ تضمن انغراسها العميق في الوسط العمالي وقطاعات الإنتاج.
2ـ الضغط لتطبيق سياسة اجتماعية قائمة على اعتماد السلّم المتحرّك للأجور، وتأميم المنشآت المهدّدة بالإفلاس أو الإقفال، وتسييرها من جانب عمالها وموظفيها، وتسهيل قيام الرقابة العمالية في شتى مرافق الإنتاج.
3ـ التسليف بفائدة منخفضة للمزارعين، وتنظيم نزيه لتصريف المنتجات الزراعية، مع إحداث لجان لصغار المزارعين بين مهماتها مراقبة عمليات النقل والتسليف والتسويق، واتخاذ تدابير لحمايتهم من المضاربة الأجنبية.
أما في المجال الثاني، أي السياسي، فكان يمكن ألا يصبح اتفاق الطائف مطلباً مشتركاً، يجمع اليسار، في معسكر واحد، مع الرموز المختلفين للسلطة البورجوازية اللبنانية التابعة والرثة. وكان يمكن بالتالي أن يرفع اليسار بوجه كل المواثيق والاتفاقات التي تمت على امتداد تاريخ لبنان المعاصر في الدوائر العليا للطبقات الحاكمة والكواليس المعتمة للدبلوماسيات الأجنبية، مطلب انتخاب جمعية تأسيسية على أساس التمثيل النسبي غير الطائفي ولبنان دائرة واحدة، وبالتالي تصارع البرامج أمام أوسع الجماهير، ومن بينها برنامج متقدّم لهذا اليسار يضع في أعلى جدول أعماله الفصل التام للدين عن الدولة، وعلمنة الأحوال الشخصية، والتعليم، وإقرار المساواة التامة بين المرأة والرجل، ومن ذلك على صعيد قوانين الإرث والعمل والعقوبات والجنسية.
كشف الحساب الإجمالي
في كل حال، فإن كشف الحساب لا يمكن أن يقف حصراً عند النقاط السلبية، إذ كان أمراً في غاية الأهمية مجرد اجتماع هذا اليسار، بعد تردد طويل، لأجل التداول في ما ينبغي عمله إزاء الانقسامات الحالية التي تمزق البلد وتشلّه، ونحو استكشاف رؤية برنامجية تكون بديلاً لبرامج قوى السلطة المتصارعة، فضلاً عن إبراز توجه إلى الجمع بين انخراط هذا اليسار في المعركة لأجل التغيير الاقتصادي والاجتماعي والسياسي واستعادة موقعه في العمل المقاوم، بشتى أشكاله، بما فيها العسكرية، ليس فقط بمواجهة إسرائيل بل أيضاً بمواجهة هجمة الإدارة الأميركية الراهنة ومشاريعها للمنطقة. وهو توجّه سوف تكشف مدى جديته، أو العكس، الأشهر القليلة القادمة، وما قد تنجح في بلورته اللجنة التحضيرية المكلّفة متابعة أعمال لقاء أواسط آذار، على طريق ما سمّي مؤتمراً تأسيسياً لقوى اليسار، يؤمل انعقاده قبل نهاية هذا الربيع.
ثمة متشائمون كثر، ولكن هنالك، دائماً، ربما في آخر الأفق، وربما قبله بقليل، مساحة من الضوء هي التي طالما جعلت رافضي الواقع القائم، والحالمين بالتغيير، يحوّلون حلمهم إلى حقيقة!
* كاتب لبناني