strong>معتصم حمادة *عندما أعلنت الحكومة اللبنانية عن مخطّطها التنفيذي لإعادة إعمار نهر البارد، شعر اللاجئون الفلسطينيون ببعض الارتياح، ورأوا في ذلك خطوة (ولو محدودة) في الاتجاه الصحيح. وقد أوضحت الحكومة اللبنانية أن إعادة الإعمار ستكلف حوالى 270 مليون دولار، بينما رأى ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان عباس زكي أن المبلغ سوف يتجاوز الرقم المذكور إذا ما احتسبنا التعويضات الواجب دفعها لمن خسروا أثاثات منازلهم وحليّهم وممتلكاتهم الخاصة من الفلسطينيين، وإذا ما احتسبنا كذلك خسائر السوق التجارية في المخيم، وهي نقطة استقطاب للريف المجاور. وبذلك تصل كلفة إعادة إعمار المخيم، وإعادة الحياة إليه، إلى ما يزيد على 300 مليون دولار.
في الحسابات المحلية، قد يبدو المبلغ كبيراً، وخاصة أن الحالة الاقتصادية للبنان لا تتيح الحديث عن دور رئيسي لخزينته في مشروع إعادة الإعمار.
أمّا في الحسابات الدولية، فيكاد المبلغ يكون زهيداً، وخاصة إذا ما احتسبنا كلفة الحرب اليومية في العراق وأفغانستان، وكلفة تشغيل الأساطيل الأميركية في البحار المحيطة بالمنطقة العربية، وكلفة تشغيل أقمار التجسّس وأسراب الطيران الأميركية في سماء المنطقة. ونعتقد أن بضعة هواتف بين العواصم الكبرى كفيلة بتوفير هذا المبلغ خلال ساعات قليلة، إن توافرت النيّة لدى هذه العواصم لإيجاد حل لمأساة النازحين أبناء مخيم نهر البارد.
لكنّ أحداً لا يستطيع التعويل على حسن النوايا هذه إزاء الفلسطينيّين (وإلّا فكيف نفسّر العجز المالي الدائم لوكالة الأونروا، وهو لا يتجاوز سنوياً عشرة ملايين دولار، دون أن تتدخل العواصم الكبرى لمعالجته). كما لا يكفي أن تبدي الدولة اللبنانية حسن نواياها نحو اللاجئين وتؤكد عزمها على إعادة إعمار البارد، وتنتظر في الوقت نفسه أن تبادر الدول المانحة إلى تغذية صندوق الإعمار هذا. فقد علمتنا التجربة أن الدول المانحة لا تهب لوجه الله وأنها ليست جمعية خيرية، بل هي «تهب» أموالها لتحقق بذلك أهدافاً سياسية تخدم مصالحها. ولعل هذا ما دفع الدول المانحة ـ على سبيل المثال ـ لتتبرع في مؤتمر باريس الأخير بمبلغ خيالي يصل إلى 7.7 مليارات دولار للسلطة الفلسطينية، أملاً أن يؤدي ذلك إلى تهدئة خواطر الفلسطينيين، ويعزز من شعبية رئيس السلطة محمود عباس، ورئيس حكومته سلام فياض، ويقنع الفلسطينيين في الوقت نفسه بأن الركون إلى الهدوء والابتعاد عن العنف لن يكون مجاناً، بل له مكافأة، ومكافأة مجزية جداً، تصل سنوياً إلى حوالى 2.2 مليار دولار من أموال الدول المانحة.
هذه القراءة لواقع الحال، كما هو عليه، تدعونا للتساؤل عن الدور الواجب أن تؤدّيه منظمة التحرير (أو السلطة الفلسطينية لا فرق) في إعادة إعمار مخيم نهر البارد. فليس منطقياً أن يُترك أمر إعادة إعمار المخيم على عاتق الحكومة اللبنانية وحدها، في ظل أوضاع لبنانية شديدة التعقيد، كما أنه ليس منطقياً أن يُترك النازحون من أبناء البارد، مشرَّدين بانتظار حل الأزمة اللبنانية، وبانتظار أن تعيد الحكومة اللبنانية ترتيب أوضاعها وأوضاع البلد. فالكلّ يعرف أن إعمار المخيم لا يدخل الآن في أولويات الهمّ الرسمي اللبناني، المنشغل بالعديد من الملفات الأخرى الأكثر خطورة، من وجهة نظر لبنانية، وفي مقدمها انتخاب رئيس جديد للبلاد، وإعادة ترتيب النظام السياسي اللبناني.
كما أن منظّمة التحرير، وهي تصرّ على تقديم نفسها ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني، لن تخرق السيادة اللبنانية إن هي تحملت المسؤولية (الواجب تحمّلها أصلاً) نحو أبناء مخيم نهر البارد، ورأت إعادة إعمار المخيم واجباً رئيسياً من واجباتها الوطنية.
من الصحيح أن اللجنة التنفيذية في المنظمة قدمت 6 ملايين دولار لنازحي البارد، لكن الصحيح أيضاً أن هذا المبلغ استقطع من مرتبات موظفي السلطة وموظفي (م. ت. ف.) وأنه صرف كمساعدات فورية للنازحين، ولم يندرج في خطة إعادة الإعمار.
ومن المفيد أن نتّفق على أنّ إعادة إعمار المخيم هي عمل سياسي بامتياز، لا مجرّد عمل تنموي، هدفه تأمين مساكن لنازحين اضطرّتهم الظروف لمغادرة منازلهم فحسب، كهؤلاء الذين يفعلون ذلك تحت وطأة زلزال أو إعصار أو طوفان.
إعادة إعمار البارد هي في حدّ ذاتها موقف سياسي عملي ضد التوطين وضد التهجير في الوقت نفسه. فلقد أجمعت الدراسات على اختلاف مصادرها، على أن المخيم لعب في الحياة الفلسطينية الدور الرئيسي في إعادة بناء المجتمع الفلسطيني في الشتات، وفي صون الشخصية الوطنية للشعب الفلسطيني. ولولا هذه الصيغة، التي نطلق عليها المخيم، لذاب اللاجئون الفلسطينيون في المجتمعات المضيفة، ولكان مصير قضيّتهم الوطنية مختلفاً. وليست مصادفة أن تكون المخيمات، على بؤسها، هي الفضاء الذي تسبح فيه الحركة السياسية الفلسطينية بتجلّياتها المختلفة. وليست مصادفة، أيضاً، أن يكون نصيب المخيمات، في الشتات، وفي المناطق الفلسطينية المحتلّة «مميزاً» في الاعتداءات الإسرائيلية، وأن يكون في مقدمة اشتراطات إسرائيل لـ«حل» قضية اللاجئين إنهاء الوضع القانوني للمخيمات، وتحويلها إلى ضواحٍ ملحَقة بالمدن المجاورة، وحلّ وكالة الغوث ونقل خدماتها إلى الدول المضيفة.
إذاً، لا يكون الحرص على المخيم وعلى حقوق اللاجئين مجرّد خطابات تُتلى في المناسبات وفي المهرجانات، بل يفترض أن يتحوّل هذا الحرص إلى عمل يرتقي إلى مستوى الخطاب وإلى مستوى النوايا.
من هنا نرى أن على (م. ت. ف.) واجباً لا يقلّ عن واجب الدولة اللبنانية في توفير المال اللازم لإعادة إعمار مخيم نهر البارد. ونقترح في هذا السياق أن تعلن اللجنة التنفيذية للمنظمة عن إنشاء صندوق خاص بإعادة إعمار مخيم البارد، وأن تدعو المموّلين الفلسطينيّين (أوّلاً) إلى المساهمة في هذا الصندوق، ثم الدول العربية، النفطية منها خاصة، لتكون لها مساهمتها الملحوظة في هذا المجال. ونرى في السياق أن القمّة العربية في دمشق قد تمثّل فرصة أمام الفلسطينيين كي يتبنّى العرب مجتمعين مسؤوليّة إعادة إعمار المخيّم المنكوب.
مثل هذه الخطوة لا تكتفي بأنّها وفّرت المال المطلوب، وعجّلت بإعادة الإعمار، وإعادة النازحين إلى مخيّمهم، وصانت وجودهم وحافظت عليه، بل إن مثل هذه الخطوة ستعني تحمُّل منظمة التحرير مسؤوليتها أمام شعبها، وهذا من شأنه أن يعزز الموقف التمثيلي للمنظمة، وأن يعطيها دوراً في رسم مستقبل المخيم والشكل المناسب لإدارته، بما يحفظ للفلسطينيّين خصوصيّتهم السياسية والاجتماعية، ويحفظ، في الوقت نفسه، للدولة اللبنانية سيادتها على كامل أراضيها.
* عضو المكتب السياسي للجبهة الديموقراطيّة لتحرير فلسطين