وليم نصّار
في الحادي عشر من كانون أول، صبيحة أحد، طلق كوجه طفل يغفو على ثدي أم ترضع الخير، وُلدنا. وفي كل عام، أيها المسافر في دمنا والمبحر في شريان الذاكرة، أرتديك لحماً وعطراً. أجدّد صلتي بك وأخبئ طيفك في بؤبؤ العينين، وحين تضيق بي الأرض والسماء، ويجافيني أو ينساني إخوة ورفاق لي أحبهم، أراك وحدك نوراً للحب ومصدراً للفجر الندي.

يا حكيم، لم أعتدك قاسياً إلى هذا الحدّ. لمَ تركت قلبي المشاغب وحيداً؟ أليصبح ذكرى يغنّيها الشعّار على رباب من نقر حنين ودموع؟
نعم جعلتني أبكي. ومن قال إنّ دموع الرجال أصعب الدموع؟ ألم تعلّمنا أنّ أصعب الدموع تلك التي نذرفها على صدر أم أو على تراب وطن؟ وأنت كنت لي الحلم وما تبقّى من وطن.
يا حكيم، لم هذا الرحيل المفاجئ؟ هل كنّا أبناء عاقّين؟ هل تعبت منا ومن هروعنا إليك لنلقي بهمومنا في قلبك المتعب؟ إغفر لنا محبتنا. لكنّنا كنا نرى فيك المرفأ ومرساة الجرح الأخيرة.
يا حكيم. أيها الرفيق الرقيق الحنون حتى العظم.
الليلة لم أستطع النوم. متجمّداً أمام التلفاز لأشارك من خلاله موكب عرسك الأخير. غفت عينِي قليلاً فرأيت أبو هاني في الحلم يوقظني ويقول لي: إذا أردت أن تضيف إلى همك هماً جديداً، فاعشق الوطن.
لكنك تعرف أنني منذ المخاض الأول أعشق الوطن، وأنتمي إليه، كما علمتنا انتماء الابن لا انتماء السمسار أو انتماء الحلاب إلى بقرة ذات ضرع.
كم غنّينا لفلسطين، وها هي فلسطين لا تجيء إلينا، ولا تتركنا نأتي إليها. وكم صلينا لآلام فلسطين، لكن فلسطين لم تخلّصنا.
هل أصبح الموت أحنّ من الناصرة ومن تراب يافا واللد؟ هل ستكون فلسطين هي نفسها من بعدك؟ هل سيكون لكلمة ثورة طعم من بعدك؟ كيف سيكون مذاق الموسيقى والشعر وصوت وفيروز؟
أجبني يا أبي.
أيها الآب. لا أصدق أنها المرة الأخيرة التي أناديك بها يا أبي؟
يا أبي. أدرك الآن أن بلادنا مؤجلة، لكن اطمئن فنحن نحاول أن نثبت الحلم واللون والريح في الذاكرة، ورغم الألم فإن معنوياتنا وأرواحنا مثل خشب البلوط.
ولن ننتحر كما يتمنى البعض بل سنظل داخل النضال ضدّ الثورجيّين وضدّ العوج.
يا أبي، سوف تبقى بوصلتنا إذا صارت برسم واحد كل الجهات. وفي كل يوم سوف أنقش وجهك الحنطي
آيات لسفح القلب الكنعاني، وأتذكر كم رضعت من الحنين فأصرخ ملء حلمي: يعلمني حنيني أنه حتى الجبابرة أقزام أمام الوطن. لكن تكاَثُر الأقزام في بلادنا، حتى إنهم غزوا حلمنا. ينظرون في أعيننا، يراقبون نبرة صوتنا...
لقد أصبحوا شرطة وزرعوا داخل كل منا شرطياً.
يا أبي، أقبّل قلبك، وأطمئنك إلى أننا مستمرون في العناد وركب الرأس، فمثلك هم ذاكرتنا حين تخوننا الذاكرة. أنت دمنا يا رفيق. يشدنا إليك رباط الرغيف والحرية والحلم. ففلسطين التي من أجلها جعنا، وعرينا، وحلمنا وغنينا، وجرحنا واعتقلنا، سيكون الغد الآتي لها.
يا أبي، سلّم على غسان وأبو علي ووديع وأبو أحمد الزعتر ورفيق دربك جورج حاوي، وأبلغهم أننا في غيابهم ازددنا إيماناً بأننا وحدنا ورثة هذا الوطن، نضمّ زيتونته إلى الصدر الفسيح رغم ضيق الطريق.