نسيم ضاهر *
ليس من عاقل يجهل أنّ القضيّة الاجتماعيّة لبّ المسألة ومحكّ الامتحان في كل دولة ومكان، تتصدَّر اهتمام الناس وتودي بحكومات. فمهما بلغ السِّجال حول السياسة الخارجية أو أي عنوان آخر يتّصل بإدارة الشأن العام، تتقدّم لوحة المطالب والإصلاحات على ما عداها في بلورة المواقف واتجاهات الرأي العام، وتتحكّم، إلى حدّ كبير، بمنح الوكالة الشعبية وتجديدها أو سلخها عن المسؤولين.
وحيث أفرزت المسيرة الاجتماعية جملة من أدوات التعبير والانتظام، من الأحزاب إلى الجمعيّات وهيئات التشارك المدني، لكلّ حقل ووظيفة، أطلَّت جميعها واعتنت بالواقع المعيشي ومراكمة المكتسبات، حسب قراءتها وموقعها ونسبها الفكري ومدارسها الفقهية ومناهجها. في هذا المعنى، يصحّ القول إن جميع الطرق تقود إلى روما، مملكة الأرض ترسم سبل الحياة. إلاّ أن السيرورة التاريخية خصَّت عالم الشغل أيضاً بتشكيلات نابعة من رحمه وعذاباته، لصيقة بيومياته واحتياجاتِهِ، حريصة ساهرة على مصالحه، نشأتْ طوائف مهنية وحرفية في طورها الأول، وانبعثت نقابات عمّالية مع شيوع الرأسماليّة، ألهمت أخوات لها وشقّت الدرب واسعة لجميع الأجراء والعاملين في الأرياف والموظّفين في القطاعين، الخاص والعام.
ينزع علم الاجتماع إلى رؤية الحركة النقابية بمثابة حارس الميزان الأهلي المعفى من شطط السياسة ومآرب التقليديّين المحافظين. ويُشير، من خلال حضورها ويقظتها، إلى رشد الجسم المجتمعي واكتسابه المناعة، لأن التنظيمات النقابية، هيكلاً وهوية ومدلولاً، مرآة الحراك المؤسِّسي الصراعي، ومعبر الحوار الاجتماعي بالضرورة، رسالتها التآخي والتضامن بين أعضائها، ومفعولها الدفاع عن مصالحهم وإسباغ المشروعيّة على شخصيتهم الجمعية.
ولقد وفّر انتساب النقابات إلى اتحادات قطاعيّة ذراعاً ماضية فاعلة، وقضى، في المهد، على الشرذمة ومحاولات بعثرة الصفوف العمّالية من خلال تضادّ تنافسي من أجل لقمة العيش على قاعدة زرع البطالة وانحباس سوق العمالة. في الموازاة، دفع الوعي الطبقي المتصاعد نحو استنباط صيغة اتحاد عام للشغيلة، موحّد جامعٍ، ينهض بمشتركات العاملين على الصعيد الوطني (تمهيداً لأمميّة صريحة في مواجهة النظام الرأسمالي كونيّاً) ويُجسِّد كيانية الطرف المستلَب، صاحب قوّة العمل دون سواها، في المعادلة الطبقية مع جبهة أرباب العمل مالكي أدوات الإنتاج، وفي التموضع الوقائي إزاء النظام السياسي المنبثق عن غلبة أصحاب الثروات والامتيازات.
عل غرار تفلّت الطبقة العاملة من الاستسلام والانصياع، غادرت الحركة النقابية دائرة العدمية والفوضويّة، فاستبدلت العفوية بالنشاط المنظّم، والبكائية الحالمة بالواقعية النضالية الدؤوبة. لكن هذه السلوكية، إن أضحت من معالمها وملامح حرصها على صفات العقلانية والمسؤولية، ما كان في مقدورها حجب النزاعات بين الثوريين والإصلاحيين. ومن ثم تعدد المرجعيات والانتماءات، أفضى إلى تنوّع ضمن الوحدة، أقلّها وحدة العمل، والتزام وفق تلاوين الإصلاح الكنسي والزمني، يتقاطع مع الحاضنة الأم، ويتقاسم معها الإشراف على الهيئات المحلية والمشاركة في إدارة المؤسّسات المختلطة الراعية والضامنة لعلاقات العمل وعوائد الأُجراء ومكتسباتهمفي لبنان، سار الاتحاد العمّالي العام خلاف هذا النمط، محافظاً على وحدة شكلية في المظهر، نجمت عن اعتراف رسمي وانضمام الجناح اليساري تحت مظلّته بعد طول استبعاد. اجتاز الاتحاد العام امتحان الحرب الأهلية وخرج من حقبتها بلا انشطار، تنضوي فيه الاتحادات المكوِّنة، وعددها لا يتجاوز أصابع اليد، منها قطاعيّ وغالبها مهنيّ هجين. هكذا بدا نموذجاً عاملاً للسلم الأهلي واستعادة اللحمة الوطنية الضائعة، رغم اقتصار نشاطه المرحلي على التواصل والمبادرات الرمزية بياناً لقدرة الفئات العاملة على تخطّي الحواجز والقفز فوق الخنادق الطائفية المرسومة.
عانى العمل النقابي من التضييق داخل المؤسّسات الخاصّة من الحجم المتوسّط والمتواضع وما دون، مثال مصاعب نظيره في الدول الصناعية. بيد أنه واجه التدابير القمعية والتسريح الجماعي للنشطاء حيثما وجدت وحدات صناعية معتبرة، فانكفأت النقابات إلى صيغ خوَّلتها التمثيل العمّالي بالمعنى العريض، دونما حضور عفوي فاعل ومنظّم داخل المشاغل والمنشآت وأمكنة العمل، باستثناء مؤسّسات القطاع العام التي سمحت بممارسة الحياة النقابية في حماية القانون الوظيفي وحصانته.
وسيكون لهذا المعطى أبلغ الأثر لاحقاً في كنف الوصاية السورية والمتعاقبين على مقاليد وزارة العمل، إذ فرَّخت عشرات النقابات الصورية، تُجزِّئ المجزّأ، وتقسّم المقسَّم، ضمن المهنة والحِرفة والصناعة الواحدة، بشفاعة التراخيص والاحتضان الفئوي، وما لبثت المسمّيات أن اجتاحت الساحة، تستولد اتحادات مناطقية وقطاعية، وتستحضر هياكل فارغة ناهزت السبعين في تعدادها. مذذاك، التحق الاتحاد العام كلياً بأجهزة السلطة، يشاغب عند الطلب، ويدين لمن يدور في فلكها وينعم بحظوتها، بالولاء والإسناد.
لم تزدهر الحركة العمّالية مؤسّسياً جرّاء هذه الشوائب والسقطات. دمَّر التأطير المصطنع والأمر الواقع المفروض استقلالية العمل النقابي، وحرمه العافية ونموّ الوعي. سوى أن النهج الاقتصادي ـــــ الاجتماعي المتّبع همَّش الطبقة الوسطى، وأهمل مصاعب الفئات الدنيا في التكيّف ومعايشة التحوّلات في منحاها المالي والنقدي، وهي مبعدة أصلاً عن منافعها، ومتلقّية مضارّ تداعياتها من أعباء رسوم وضرائب وقيود على الأجور وتدابير تقشّفية في المجال الاجتماعي. فهذه الفئات معنية بالنهوض الاقتصادي والإعمار على المدى الطويل، بلا شكّ، لكنها عجزت عن تحمّل كلفتها وآثارها في معاشها اليومي وتردِّي أوضاعها التعاقدية إزاء منافسة العمالة الوافدة. لذا اعتمدت المناوشة الشاكية والمساومة أسلوباً سقفه الضبط، ومعينه التزاحم السياسي واستدرار العطف المذهبي والحماية.
إنّ تراجع التمرين الديموقراطي المؤيد بالوعي وروح المسؤولية المتأتية عن المشاركة، خلَّف تظهيراً للمكبوت والمكتوب عقب زوال زمن الوصاية، تنطّحت قيادة الاتحاد العمّالي لتخصيبه دون كفاءة أو جدوى ومشروعيّة، فغدت دخيلة على منازلة، مُحرّكها وناظمها وصاحب الحشد في غير مكان. في هذا الإطار، والمناخات المحيطة به وبتفاصيله، آلت مسؤولية الاحتجاج المطلبي وأبوّته إلى قوى سياسية عليمة بعائده وفوائد رافعته ضعيفة، خفيفة الخبرة بأصوله وكوابحه، فتقلّصت المسافة الفاصلة بين الإضراب والاضطراب، وباتت الحمية والنخوة جسر عبور من النقمة إلى الانتقام، ومن الممارسة السلمية المشروعة والسليمة إلى شغب نافٍ للمساواة.
من البداهة اتصال الأزمات الاجتماعية بالسياسة، وارتباط تلبية المطالب بانعطافات تشريعيّة ومراسيم وقرارات مؤاتية تتّخذها السلطات وتقرّ بأحقّيتها والحدود التي يمكن بلوغها ظرفياً، ولو على مضض أو تراجع.
تبيّن الحال الراهنة لبنانياً، احتلال السياسة كل المساحة وتغييب المنطق التفاوضي ومقترحات الحلول والبدائل، أي اختصار المراحل وتجاهل أقنية الحوار واستخدام اللافتات النقابية غطاءً لحراك قوامه المواجهة في الشارع، على جاري تعبير مقيت.
يترافق اختزال الغبن والحرمان بشريحة فئوية وتغليف المسألة الاجتماعية مناطقياً وجهوياً على قاعدة التمييز السلبي ووفق خطوط عمودية تعانق الانقسام السياسي، مع تعطيل المؤسّسات الدستورية وتسييب القوانين الوضعية، ومصادرة التحسّس الاجتماعي حكراً على طرف دون سواه، رائده خلاصي معصوم. على هذا النحو، يخضع تحديد الفارق بين الجائز والمحظور وتعريفه لاعتبارات خاصة انتقائية، وتُشوّه مفاهيم أساسيّة ضامنة لحقوق المواطن في التعبير السلمي والديموقراطي من خلال ممارسة صاخبة نقيضة تملي وتُكره عملاً بمظاهر القوّة والعداء لغريم مسؤول ومرفوض.
ينتسب هذا النهج إلى مدرسة كلِّية تروِّض المنظومة النقابية تحت عباءتها، من حيث المساءلة والاستقلالية الكيانية والمعنوية، وتدمج العمل المطلبي بالسياسي المباشر. وهو يتّكئ على مقدّمات ـــــ مسلّمات جامدة تُعنى بالقواطع والتصنيف، أخيار أصحاب حقوق أنقياءْ من جانب وأشرار مغتصبون فاسدون على الضفّة الأخرى، دونما عطف على السلم الاجتماعي ومراعاة لبياناته. وإذ تفسد هذه القراءة المغلوطة مسار العمل المطلبي، وتعرِّيه من رصيد جامع، فهي تقوده إلى حقل انتفاضي يصعب التراجع عنه، يستدعي المزيد من الشحن والتعبئة، بقدر ما يستثير ردود الفعل والاصطفاف المقابل.
إنّ توسّل الانقسام السياسي رافداً للحراك الشعبي، سيف ذو حدّين، يوطِّن الدعم والالتفاف حوله لدى فريق بعينه حصراً، ويحجب التجاوب معه والانخراط فيه لدى الطرف الآخر. بل يقيم الحواجز عوض التواصل والتلاقي، انطلاقاً من عامل السياسة، المغاير جوهراً ومراداً للجامع المصلحي القائم على الجذور الاجتماعية والانتماء الطبقي.
إلى ذلك، ثمّة معطيات بائِنة، مردّها أن حزب الله قاطرة جبهة المعارضة وخزّانها البشري الأعرض بلا جدالٍ (وبالتناغم مع حركة أمل)، وهو ما يسبغ طابعاً مذهبياً ظاهراً على التحرّكات المطلبية التي شهدها لبنان في الفترة المنصرمة، فشلت سائر الأطراف الحليفة في تبديله، واكتفت بالمواكبة والحضور الرمزي، أو غابت تماماً عن فصوله الحادّة الموكولة واقعاً إلى الضاحية الجنوبية وأبناء المناطق المؤيدة لدعوات السيد حسن نصر الله. ولمَّا عُرف عن حزب الله متابعته المتأنية للمجريات، لا نخاله غافلاً هذه الحقائق، أو مرتاحاً لمغزاها.
يرتِّب إلحاق النضال الاجتماعي عضوياً بمبنى السياسة، في حدّ ذاته، الانتقاص من مضمونه وكيانيته. فكيف به وبأحواله حين يحجم أقطاب الجبهة الراسمة والداعية وأطرافها، عن تحمّل المسؤوليّات، أو يتعذّر عليهم، عملياً وشعبياً، الإيفاء بقسطهم وإبراز التنوّع المرجو؟ ذلك سؤال مشروع، يؤرِّق ولا يطمئن، ويدعو إلى الروية والتمعّن في النتائج وحمل الأعباء والتبعات. إن خذلان انتظارات الثنائي الشيعي من جانب حلفائه، وغيابهم عن الساحة، مؤشر سلبي يثقل على حزب الله بخاصة، ويحرجه أمام جمهوره وعائلات الضحايا. بالتأكيد، ليست أطياف المعارضة الأخرى في موقع المتفرِّج، وهي ترفع الصوت عالياً في الإعلام ومن على المنابر. لكن البادي والجليّ أيضاً أن استنكافها العملاني وربما عجزها، يؤدِّيان حكماً إلى إيلاء حزب الله كل المسؤولية ومعظم المهمات، بحيث يمكن الاستخلاص أنّ المعارضة بفعل يديها، تسير في الحقل المطلبي الاجتماعي، إلى مزيد من اللون المذهبي الأحادي، ومزيد من المماهاة بين الطوائف والطبقات. هذا نذير ضمور رقعتها وعثار أهدافها المعلنة وبهتان التمثيلية عابرة المذاهب والمناطق.
* كاتب لبناني