سماح إدريس *
تعقيباً على حملة الحقد التي يؤجِّجها فخري كريم ضدّ مجلة «الآداب» وضدّي، والتي تجلّت بصورة خاصة في المقابلتَين اللتَين أجرتْهما معه أخيراً محطةُ «العربية» و«الاي.أن.بي».، يهمنيّ أن أوضح ما يأتي:
أوّلاً: لقد جاءت أقوالُ السيّد كريم في المقابلة التي أجرتْها معه المحطة الثانية مليئة بالمغالطات (كالإيحاء بأنّني تناولتُ في افتتاحيّتي في حزيران الماضي شرفَ زوجته!). كما تضمّنت شتائم بحقّ مثقفين لبنانيين وعرب (خير الدين حسيب ومعن بشّور بالاسم)، فضلاً عن تناوله بالتلميح شخصَ دولة الرئيس سليم الحصّ لتوقيعه «ميثاق الشرف» (الذي سمّاه كريم «ميثاقَ العيب»).
ثانياً: أستغرب في هذا الصدد جهلَ مقدِّم المقابلة على «الاي.ان.بي». الزميل طانيوس دعيبس مضمون «ميثاق الشرف». فهذا الميثاق، الذي وقّعه حتى الآن حوالى خمسمئة عامل في الشأن الثقافيّ والنشاطيّ، دعا إلى الردّ على الكلمة بالكلمة؛ فإذا امتنع الناشرُ عن نشر الردّ، صار اللجوء إلى القضاء مشروعاً من الناحية الأخلاقية. كما أنّ المقدِّم وضيفه الكريمين يتجاهلان أنّ افتتاحيتي في «الآداب» في الربيع الماضي لم تشجب مَن ذهب إلى كردستان ـــــ العراق أو إلى مهرجان «المدى»، وإنّما شجبت المثقفين الذين ذهبوا ولم يذكروا جرائمَ «الديموقراطية» الأميركية وفسادَ حلفائها هناك، وتغاضَوْا عن انتهاك حقوق الصحافيين، وتغلغلِ الموساد الإسرائيلي، وتاريخ «الرئيس» الطالباني، وارتكابات الحزبَين الكرديَين الحاكمَين في الماضي والحاضر، وتاريخ فخري كريم السياسيّ نفسه. إنّ المقابلة، والحقُّ يقال، كانت نموذجًا للإعلام الذي يتماهى فيه مقدّمُ البرنامج مع ضيفه.
ثالثاً: يصوِّر كريم نفسَه مستهدَفاً ومظلوماً، وأنّه يترفع عن توجيه الاتهامات. وأما الواقع، فإنّ جريدته «المدى» ومقابلتَيه على المحطّتَين المذكورتَين مليئة بالتهم الباطلة (من قبيل زعمه استقائي المعلومات من السفارات والمخابرات العراقية السابقة)، ومليئة بالشتائم (كقوله إنّ كلَّ مَنْ عارضوه طوال ثلاثة عقود هم «زبالة وحثالة الوضع السياسي»). وقد وَصفت جريدتُه في افتتاحية أحد أعدادها أنصارَ «ميثاق الشرف» ومجلة «الآداب» بـ«أُجَراء الثقافة وتُجّار الأسلحة» و«زُمر عناصر المخابرات العراقية السابقة والمستفيدين من مدفوعاتها». ووصف أحدُ كتّابها (محمد مزيد) أنصارَ «الميثاق» و«الآداب» بأنّهم «لا يقلُّون فتكًا» عن أولئك العرب الذين «وَجدوا في المفخّخات والعبوات الناسفة التي تفتك بالجسد العراقيّ البريء تنفيساً لغلواء نفوسهم المحتقنة». ووَصف كاتبٌ آخر، يضاهي محمد مزيد موهبةً، وهو عبد الرزاق رشيد الناصري، أنصارَ «الآداب» بـ«الجوقة التي رافقت سماح إدريس في عوائه الكريه (كذا!) وزعيقه المنكر». بل ذهب الأمر بأنصار جريدة «المدى» إلى إصدار بيان يتّهم «ميثاقَ الشرف» بأنّه «محاولة مريبة لتوفير غطاء نظريّ وتشريعيّ يعطِّل القانون ويَسمح بانفلات أخلاقيّ يكون مجاله الإعلان ووسائل الثقافة». وزعم البيان أنّ «الميثاق» يمهِّد الأرض أمام «البعض» للقيام «بمحاولات اغتيال» (أهذا تهديد مبطّن لـ«الآداب» وأنصارها بالمناسبة؟!).
ترى مَن هم الذين يوفّرون مثلَ ذلك الغطاء النظريّ والتشريعيّ، ومثلَ هذه الأرضية الإرهابية؟ الرئيس سليم الحص؟ د. أنيس صايغ الذي تَشهد عيناه وأصابعُه على الإرهاب الإسرائيلي؟ الأستاذ شفيق الحوت؟ الوزير د. جورج قرم؟ المخرج المسرحي روجيه عسّاف؟ الرسّام كمال بلاطة؟ الخبير الاقتصادي د. كمال حمدان؟ الناقد الأدبيّ د. محمد برّادة؟ عالم الاجتماع د. مسعود ضاهر؟ الموسيقيّ د. نداء أبو مراد...؟ علمًا أنّ العرائض الأخرى المدافعة عن «الآداب» والرافضة لدعوى كريم عليها تتضمّن هاماتٍ ثقافيةً وأدبيةً أخرى لم يُعرف عنها لجوؤها إلى التحريض على الاغتيالات، أمثال الروائي صنع الله إبراهيم، والمثقف الكبير نعوم تشومسكي.
رابعاً: إنّ آخر ما كان يهمّ افتتاحيةَ «الآداب» هو فخري كريم، كشخص. فالافتتاحية شبهُ مكرّسة لفضح المثقفين الذين سكتوا عن سلبيات التجربة العراقية الجديدة، وسكتوا تحديداً عن جرائم الاحتلال الأميركي للعراق وخنوع المتعاونين معه وقمعهم وفسادهم... بحجّة جرائم النظام السابق وقمعه وفساده! ولو كان ثمة سوءُ نية مقصودٌ ضدّ شخص كريم بالذات، لا ضدّ ما يَرمز إليه، لما نشرت «الآداب» (وهي غير مجبرة قانونيّاً) نصَّ الدعوى المرفوعة ضدّها وضدّي وضدّ مديرها المسؤول ــ وهي دعوى مليئة بالمدائح السلطانية لكريم بوصفه «شخصية مرموقة مشهوداً لها ماضياً وحاضراً...» وربّما ما بعد الأبد!
كما أنّ محاولة تشويه الافتتاحية كأنّها معادية للعراق، ولشعب العراق، ولأكراده، ولمثقّفيه، لا يصدِّقها أحد، بمن في ذلك الحاقدون على مسيرتها. فـ«الآداب» كانت وتبقى مجلة لكلِّ الناس في الوطن العربي، وبخاصةٍ لشعب العراق بكل مكوِّناته، ولا سيّما منذ الحصار الأميركي الجائر عليه. وكلُّ ما تطرَّقت إليه افتتاحيتي في ما يخصّ شخصَ فخري كريم لا يتعدّى السطور، وهو يتنزّل جزءاً لا يتجزأ من نقد تلك الافتتاحية للّيبراليين الجدد الذين تخلوا عن وعيهم النقدي بقدرة قادر؛ بل هو، على كلّ حال، غيضٌ من فيض ما يتداوله الناسُ عن الزميل كريم وعن تاريخه. فليَرفع الدعوى، إذن، ضدّ أكثر من سبعمئة مثقف وقّعوا ستّ عرائض (صدرت في لبنان والأردن والولايات المتحدة ومصر وتونس)، وليرفعها تحديداً ضدّ مَن طرح تساؤلات أكبر وشكوكًا أعظم عن أدواره الملتبسة أمثال: رشاد أبو شاور وعبد الحقّ لبيض وعلاء اللاّمي ونوري المرادي وطارق الدليمي وشوكت خازندار ومنذر سليمان وكمال خلف الطويل وطارق الكحلاوي وبيار أبي صعب ونهلا الشهال وأسعد أبو خليل وغسان بن خليفة ورحيم عجينة وباقر إبراهيم وجمال محمد تقي وعدنان حافظ الرمالي وسالم حسّون وحسقيل قوجمان وإبراهيم علوش وهشام البستاني وقيس عبدالله والحزب الشيوعيّ العراقيّ ـــــ المقاومة الشعبية والحزب الشيوعيّ العراقيّ ــــــ اللجنة القيادية والعشرات الآخرين (ولا أتبنّى أساليب بعضهم ولا بعض عباراتهم المهينة فعلاً بالمناسبة) الذين كتبوا صفحات لا سطوراً في هذه «الشخصية المرموقة».
خامساً: إنّ محاولة كريم تصويري وكأنَّي موالٍ لصدّام حسين لا تنطلي على مَن يعرفني، بل ولا على مَن اكتفَى بقراءة الافتتاحية موضوع الدعوى. فهل يكون صدّاميّاً مَنْ يكتب أنّ صدّام حسين هو الذي بدأ الحرب ضدّ إيران «ولكن بتشجيع وتحريض وتمويل وتسليح وتأييد من جانب الولايات المتحدة الأميركية والأنظمة الخليجية وغير الخليجية الموالية لها»؟ وهل صدّاميّ مَن يصف صدّام حسين بالديكتاتور؟ ولكنّ هذا شيء، والسكوت عن الاحتلال الأجنبيّ والاستبدادات والممارسات القمعية الجديدة على ما يفعل أدعياءُ «الوعي النقدي»، شيء آخر. إنّ ما فعله صدّام حسين ينبغي ألاّ يبرِّئ الولايات المتحدة من إزهاق أرواح مليون عراقي أثناء الحصار، ومليون آخرين منذ الاحتلال الأميركي عام 2003.. وكلُّه باسم الحرية وبناء الدولة!
سادساً وأخيراً: قد ينجح فخري كريم في أن يُطلّ على الفضائيات يوماً بعد يوم، وخاصة بسبب موقعه الجديد «المرموق» مستشاراً لرئيس العراق (تحت الاحتلال وبسبب الاحتلال). لكنّ معركة الثقافة الحقيقية تكمن في الضمائر، وفي ذاكرة القرّاء جيلاً بعد جيل؛ فهم وحدهم الذين يقرِّرون مَن يُحبُّ العراقَ وشعراءَ العراق ومثقفي العراق!.
* رئيس تحرير مجلة «الآداب»