علاء اللامي *
يريد البعض حصر موضوع مقاضاة فخري كريم الذي يصف نفسه بكبير مستشاري رئيس «الجمهورية العراقية» لمجلة «الآداب» اللبنانية التنويرية العريقة، ولرئيس تحريرها ومديرها المسؤول، بثنائية «جواز أو عدم جواز» اللجوء إلى القضاء كأسلوب متحضّر في حل الخلافات والتعديات.
والواقع أن أكثرنا يؤيد أسلوب التقاضي عن حوادث وقضايا جنائية بحتة في المحاكم؛ فعكس ذلك يعني حل القضايا الجنائية وغيرها على طريقة الغرب الأميركي «الكاوبوي» أو التكفير الديني المعاصر، حيث تكون الكلمة الأولى والأخيرة لرصاصة المسدس وطعنة الخنجر. ومن جهة أخرى، فمن البديهي أن يتبنّى المثقف الحداثي أسلوب مجابهة الفكرة بالفكرة، والمقالة بالمقالة، ويرفض أسلوب الرد على الفكرة بالرصاصة أو الخنجر، وكذلك بأصفاد القضاء الجنائي الذي استُغلّ ضد المفكرين والكتاّب في مناسبات كثيرة وصلت حد الدعوة إلى إهدار الدم وتطليق الأزواج القسري عن طريق القضاء، والأسماء كثيرة عربياً، لنتذكر منها فقط نصر حامد أبو زيد..
فهل نحن ـــــ هنا ـــــ بإزاء شأن قضائي وجنائي بحت، أم نحن في خضمّ صراع يمتّ إلى ما هو ثقافي وفكري أكثر مما يمتّ بأيّ صلة إلى أي شأن آخر؟
سيحتجّ البعض بأنّ للموضوع علاقة بجنحة القذف والشتم العلني والاتهام بالسرقة وغير ذلك مما يدخل في الباب الجنائي، لكن لنتساءل: كم هو عدد القضايا التي ستثار في المحاكم اللبنانية وغير اللبنانية إن عمد كل مَن ورد ذكرُه في مقالة أو دراسة أو كتاب إلى هذا الشكل النقدي أو ذاك، فقصقص جملة من هنا وعبارة من هناك، ليخرج إلى المحكمة بقائمة لنماذج يراها هو من باب القذف والشتم والاتهامات الباطلة، ويراها كاتبُها من قبيل النقد والتفكيك والاستنباط العقلي؟
بالعودة إلى موضوع مقاضاة فخري كريم لمجلة «الآداب» والقائمين عليها، يعتقد كثير من المثقفين العراقيين، وبخاصة من المناهضين للاحتلال، أن المدّعي فخري كريم يوجّه إليهم، وإن بشكل غير مباشر، رسالة تهديد واضحة لم يجرؤ، لا هو ولا أيُّ مستشار حكومي في نظام المحاصصة الطائفية والعرقية الذي صنعه الاحتلال، على توجيهها حتى الآن، بل هم فضّلوا البقاء في موضع الدفاع أو الصمت والهمهمة التي لا يُفهم منها خير ولا شر. إن رسالة كريم إلى المثقفين العراقيين المناهضين للاحتلال واضحة، وهي موجّهة أيضاً إلى زملائهم العرب الذين تضامنوا معهم، ومنهم، بل وفي مقدّمتهم، د. سماح إدريس ورفاقه. وباسم هذه الشراكة المشرِّفة، سأعطي لنفسي الحق في تناول قضيّتين (أو «مخالَفَتين» بعبارة دعوى فخري كريم) وردتا في لائحة اتهاماته ضد د. سماح إدريس و«الآداب».
الأولى تتعلق بنسبة جرائم السطو على أموال مؤسسات وجمعيات إلى المدّعي، واتهامات أخرى لم نجد لها سنداً أو أساساً في مقالة إدريس. أما بخصوص تساؤلات إدريس عمّا آلت أموالُ بعض المؤسسات، فإن إدريس لا يعدو أن يكون مكرّراً ومقتبساً لما قيل ونُشر في كتب موثّقة ومقالات كثيرة صدر بعضُها منذ عشر سنوات وأكثر. وسنكتفي لضيق المجال بمصدر واحد هو كتاب مذكّرات القيادي الراحل في الحزب الشيوعي، ورفيق فخري كريم في قيادة الحزب لعدة سنوات، الأستاذ رحيم عجينة. وكان عجينة أول من سلّط الضوء على اتهام فخري كريم بالسطو على أموال ومعدات مؤسسات وجمعيات، مع أنه لم يوجّه إليه اتهاماً رسمياً في القضاء. وسنورد الآن مقطعاً من مذكرات السيد عجينة حرفياً مع الاعتذار لطول الاقتباس للضرورة: «عند تدقيق مالية الحزب في اجتماع اللجنة المركزية ظهر أنّ مجلة النهج، التي أُعلن عند صدورها أنها مجلة الأحزاب الشيوعية في البلدان العربية، وكما ينعكس أيضاً في طبيعة مجلس تحريرها، هي استثمار وملكية خاصة تعود إلى فخري كريم، وكذلك مركز الأبحاث للدراسات الاشتراكية في العالم العربي، الأمر الذي كان مفاجأة للعديد من أعضاء اللجنة المركزية وأنا من بينهم... وعندما طُرح الموضوع على المكتب السياسي، سألتُ سكرتيرَ الحزب والأعضاءَ الآخرين إن كانوا على علم بذلك، فأكدوا الحقيقة. تساءلتُ عن سبب عدم إعلان الأمر في اجتماعات اللجنة المركزية، لكنني لم أحصل على جواب شافٍ سوى التأكيد على أن المجلة تعدّ منبراً وهي شأن خاص ولا دخل لهم فيه. طرحت عدداً من الأسئلة منها: لماذا لا يَعرف أعضاء اللجنة المركزية بهذا الأمر؟ هل «النهج» لم تكن على حساب مجلة الثقافة الجديدة، المجلة المركزية للحزب؟ هل «النهج» سحبت عدداً من كوادر الحزب الإعلاميين وحوّلتهم إلى استثمار خاص بأحد قادة الحزب؟ هل يجوز التداخل بين الاستثمار الخاص والنشاط الحزبي؟ وهل مثل هذا التداخل قد حدث وضاعت الحدود بين مجلة النهج والنشاط الحزبي؟ كيف نفسر زجّ عدد من منظمات الحزب وأعضائه في توزيع المجلة والاتصال بالأحزاب الشيوعية والتقدمية لتسجيل اشتراكات في النهج بناءً على تكليف حزبي؟ كيف نفسر وجود عزيز سباهي (كادر حزبي ثقافي) في مجلة قضايا السلم والاشتراكية ممثلاً لـ«النهج»، وكيف يجري ذلك؟ وبأي صفة وتكليف يطلب فخري كريم مني الإبقاء على عزيز سباهي في المجلة ؟»
ثم يورد عجينة رأياً لقياديّ آخر في الحزب هو زكي خيري الذي وُصف يوماً بالرجل الثاني في الحزب، ورفيق قديم من رفاق المؤسس فهد، قال فيه: «إن صدور مجلة النهج يعكس التناقض بين فخري كريم وعبد الرزاق الصافي الذي لم يُتح للأول التصرف كما يريد في الإعلام الخاص بالحزب». وهذا كله يشير الى أن فخري كريم كانت له مطامعه ومخطّطاته القديمة لاستغلال إعلام ومؤسسات الحزب والسيطرة عليها مالياً. ومن الطريف أن أصابع فخري كريم لم تستثنِ المفكّرين العرب من محاولات لاستغلال أسمائهم وزجّهم في أعمال سخرة فكرية يجني من ورائها أموالاً طائلة. وكما استغل كوادر الحزب الذي هو عضو فيه، فقد استغل اسم المفكر اليساري المصري محمود أمين العالم وزجّ به كعضو في مجلس تحرير مجلة النهج من دون علمه أو موافقته كما يخبرنا عجينة في مذكراته.
ويروي عجينة أن موضوع استثمار مجلة النهج أثير قبل أحد اجتماعات قيادة الحزب التي حضرها فخري كريم، حيث هاجم كريم منتقديه أو المطالبين بتوضيح حقيقة مجلة النهج، وهل هي استثمار حزبي أم شخصي للمذكور، ومنهم مثلاً سليمان اسطيفان ورفيق آخر يرمز إليه بـ«ن ب»، فما كان من فخري كريم إلا أن شتمهم كما ينقل عجينة حرفياً بقوله إنهم «عديمو الخلق وأبناء شوارع». وللخروج من حالة التداخل وإطفاء تهم الاستحواذ والسرقة والاستغلال والسخرة، وجد فخري كريم حلاً «عبقرياً» هو أن يغير اسم المجلة من النهج إلى المدى ــــــ اسمها الحالي وقد باتت مؤسسة كبيرة ــــــ «كي لا يتقوّل عليه أحد في المستقبل... وأقنعتني هذه اللقطة العريضة من النقاشات، أكثر من السابق، بأن العمل مع هذه التشكيلة لم يعد ممكناً بالنسبة إلي»، كما يرد في كتاب عجينة.
صدرت مذكرات الراحل رحيم عجينة، كما أسلفنا، قبل عشر سنوات في بيروت ذاتها. وقد علّق عليها واقتبس منها الكتاّبُ والصحافيون كثيراً، فلم نسمع أن فخري كريم قد بادر إلى وضع قناع الضحية وطالب بمقاضاة أحدهم، كما يفعل اليوم مع سماح إدريس.
أمّا بخصوص المخالفة الثانية بحسب لائحة اتهامات فخري كريم، أي تعرُّض إدريس للطالباني بتهمة «السعي إلى شراء ضمائر المثقفين والصحفيين العراقيين العرب وكمّ أفواههم عن قول الحقيقة»، فهي إن صدق ورودها بهذا الشكل، لم تصدر من إدريس مباشرة بل جاءت بمثابة تساؤل من الشاعر العراقي سعدي يوسف، ولم يفعل إدريس سوى أن تساوق مع تساؤل هذا الأخير. نقول مع ذلك، إنْ صدق ورودها بهذا الشكل فهي لا تعدو أن تكون وجهة نظر أو رصداً ثقافياً نقدياً لمحاولة «سعي» إلى فعل الشيء، لا أكثر ولا أقل. وإذا كانت هذه العبارة تستدعي من الطالباني وكبير مستشاريه مقاضاة كاتبها، فما تراهم فاعلين بالأميركي مايكل روبن، خبير سياسات الشرق الأوسط في معهد المشروع الأميركي (AEI)، الذي كتب قبل أيام قليلة فقط مطالباً إدارة بوش بفكّ تحالفها مع الأحزاب والميليشيات الكردية وإسقاط قيادة الطالباني والبرزاني متّهماً إيّاهما بسلسلة طويلة من التهم نقتبس منها حرفياً قوله بخصوص الديموقراطية المزعومة التي يتشدّقان بها: «إن الحزبين الرئيسين الكرديين، «الديموقراطي الكردستاني» و«الاتحاد الوطني»، لا يسمحان بأي تحدٍّ انتخابي جدّي... لم يكن لا البارزاني ولا الطالباني ديموقراطيين؛ فخلال السنوات 1994-1997، انتهك كلا الزعيمين بشكل كبير حقوق الإنسان في الحرب الأهلية التي خاضها أتباعهما، والتي يصح أن نسمّيها حرب السليمانية ـــــ أربيل». ويتهم الخبير الأميركي الطالباني والبارزاني بتنفيذ إعدامات عاجلة بسجنائهما من الطرفين، وجميعهم من الأكراد. وهناك 3000 سجين كردي لم يأت لهم أيُّ ذكر حتى الآن في سجلات الطرفين، وهم مجهولو المصير تماماً من جانب عوائلهم التي تعرف فقط أنهم كانوا أسرى لدى الطرف الكردي الآخر خلال الحرب التي كانت دائرة لسنوات بين الحزبين المتحالفين اليوم، فيما تُروى تفاصيل بشعة عن أعمال إجرامية نفّذها الطرفان بقطع آذان الأسرى وثقب رؤوسهم وتعذيبهم بطرق مختلفة لأغراض الترهيب والانتقام، فضلاً عن الاتهامات والفضائح السياسية واستشراء الفساد والمحسوبية. ومن ذلك قول روبن إن «الطالباني، بصفته رئيساً لحزب الاتحاد الوطني الكردستاني، حوّل الأرض إلى ملكية للاستفادة من أرباحها. وفي واحدة من الحالات المستمرة حتى الآن، فإنه يستخدم Nokan (نوكان) وهو اسم لتكتّل رجال الأعمال في حزبه، كوسيط لترحيل اللاجئين من الأرض التي يرغب (الطالباني) في السيطرة عليها ومنحها جزءاً من رعايته لأعضاء حزبه». أما بخصوص القضاء والعدالة في جمهورية الطالباني، فيقول مايكل روبن ما يأتي: «ومعروف أن كلا الحزبين الديموقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني يسيطران على القضاء، ولا يستطيع لا اللاجئون ولا المواطنون العاديون استخدام أيّ وسيلة لاستئناف قرارات القضاء أو الاعتراض عليها». لقد خسر فخري كريم ذات مرّة لقبه الشخصي وانتسابه إلى الشعب الكردي حين أجبرته عشيرة زنكنة الكردية المحترمة على التخلّي عن اسمها لأسباب معينة، واكتفى منذ ذلك اليوم باسمه الحالي فخري كريم. فهل يعرف ما الذي سيخسره بسعيه اليائس إلى إخافة أو إخراس صوت تنويريّ عريق كصوت مجلة «الآداب» عبر القضاء؟
* صحافي وكاتب عراقي