كميل داغر *
حتى منذ ما قبل قيام دولة إسرائيل بسنين طويلة، تبدو فلسطين جرحاً مفتوحاً. وعلى الرغم من أن النزف تزداد حدته، خاصة في غزة، يجب أن لا يؤدّي ذلك إلى تناسي المشكلات التي يعانيها الشعب الفلسطيني في أماكن أخرى، من بينها لبنان، حيث وضع على المحكّ في أواخر الربيع الماضي مصير أحد مخيماته الأساسية لدينا، مخيم نهر البارد، بعد أشهر طوال من المعارك الشرسة مع الجيش، التي استهدفت في الدرجة الأولى، بلا ريب، منظمة سلفية هي «فتح الإسلام»، لكنها أدّت عملياً إلى تهجير ثان ٍلعشرات الألوف من سكّانه الفلسطينيين، وإلى دماره الشامل، فضلاً عن دمار واسع لحق بالمنطقة المحيطة به، المتعارف عليها بتسمية المخيم الجديد، والتي يملكها بعض من هؤلاء السكّان ولاجئون فلسطينيون آخرون، وهو ما يدفع إلى التساؤل إذا لم يكن ذلك مقصوداً، وليس مجرد نتيجة لا غنى عنها للحسم ضد «فتح الإسلام».
بذلك، كان مخيم نهر البارد ينضمّ إلى مخيمات عديدة أخرى سبق أن استهدفت، لسبب أو لآخر، منذ الحرب الأهلية الأخيرة، لكن على يدي ميليشيات طائفية، كما حصل في تل الزعتر وجسر الباشا، في عام 1976، ومع صبرا وشاتيلا خلال الاجتياح الإسرائيلي في عام 1982، في عدوان أول، مسؤولة عنه إسرائيل والقوات اللبنانية؛ ومن ثم مع هذين الأخيرين أيضاً، في أواسط الثمانينيات وفي عدوان ثانٍ خاضته هذه المرة حركة أمل، الشيعية. وفي كل من تلك الحالات، كان الشعب الفلسطيني يدفع ثمناً باهظاً جدّاً من حياته ورزقه واستقراره، بعد لجوئه الأول إلى لبنان في عام 1948.

مخيم البارد، إلى أين؟

في حالة المخيمات الضحايا المشار إليها أعلاه، تلازم الاعتداء على اثنين منها، هما مخيما جسر الباشا وتل الزعتر، مع زوالهما النهائي مذّاك، وتهجير من بقي حياً من سكانهما، بينما أدّى الاعتداء الثاني على مخيمي صبرا وشاتيلا، إلى تهجير قسم واسع من سكانهما الأصليين. الأمر الذي يطرح سؤالاً جوهرياً عن المصير الذي قد يلقاه مخيم نهر البارد، في الأشهر والسنوات القادمة، في ظل زحف المشروع الأميركي ـــــ الإسرائيلي المشترك، الذي يشهد تقدماً واضحاً، لأجل الالتفاف النهائي على حق العودة؛ وهو التفاف، بين ما يؤدي إليه، فيما لو قيِّض له النجاح، توطين اللاجئين في أماكن لجوئهم الراهنة، ومن ضمنها لبنان. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، تكريس الحلم المستمر لدى الحركة الصهيونية والإدارة الإسرائيلية بإعلان ما تسميه يهودية إسرائيل، مع ما قد يتلازم مع ذلك من تغييرات ديموغرافية جوهرية في واقع الدولة الصهيونية، على حساب عرب أراضي الـ48! وهو الأمر الذي يدعونا إلى إبقاء كل هذه الاحتمالات الخطيرة نصب أعيننا فيما ننظر إلى الطريقة التي تمّ التعاطي بها مع المخيم قبل، ومن ثم خلال الحرب على «فتح الإسلام» في فترة أواخر الربيع والصيف الماضي، وبعدها ـــــ كما سنرى أدناه ـــــ وصولاً إلى أيامنا هذه. وهي طريقة تطرح بالتأكيد علامات استفهام كثيرة كان تحقيق صارم ونزيه (سبق أن دعت إليه، عبثاً، قوى عديدة في الساحة السياسية المحلّية) هو الوحيد الذي يمكن أن يجلوها ويرد عليها، بما يمكِّن عندئذ من كشف حقيقة ما يعدّ لمخيم نهر البارد، وعلى الأرجح أيضاً لباقي المخيمات، ولكل الوجود الفلسطيني على الأرض اللبنانية. وهو تحقيقٌ توقف من سبق أن رفعوا شعاره عن المضي برفعه، تماماً كما يحصل دائماً مع شريحة سياسية عاجزة عن المحاسبة الجدية وحتى النهاية، بسبب ما يعنيه ذلك من ضرورة كشف عورات النظام كلياً ـــــ هذا النظام الذي هو جزء لا يتجزّأ من أعمدته ـــــ بما هو نظام طائفي مترهّل وعفن وتابع، ويستدعي نفضاً كاملاً وتغييراً من الأساس. هذا فيما ثمة حاجة قصوى لإجراء هذا التحقيق، وتحديد المسؤوليات وإنزال العقاب، وأبعد من ذلك كله فضح الطبقة الحاكمة بأسرها وتعريضها لأوسع محاكمة شعبية على جرائمها بحق الوطن والشعب، وعلى مؤامراتها المشبوهة ضدهما.

قبل الحرب على المخيَّم

لقد قيل الكثير عن الطريقة التي جرى بواسطتها إدخال جزء واسع من المقاتلين الأجانب الذين ألّفوا في ما بعد الجزء الأساسي من جسم «فتح الإسلام» إلى الأراضي اللبنانية، ولا سيما عبر مطار بيروت، مع ربط ذلك بالمشروع الأميركي لتفتيت الدول العربية، ومن بينها لبنان بوجه أخص، في إطار ما بات معروفاً بالفوضى الخلّاقة، وما يفترض أن يلازمها من صراعات دينية وطائفية مطلوبة (تنطلق من تناقض سنّي مزعوم مع ما سبق أن أطلق عليه الملك الأردني الحالي العميل، بعد والده الراحل، للاستخبارات المركزية الأميركية، تسمية الهلال الشيعي!)، وتمهّد لقيام «شرق أوسط جديد» كانت قد تحدّثت عنه رئيسة الدبلوماسية الأميركية، كوندوليزا رايس، في الأيام الأولى لحرب تموز ـــــ آب 2006. وهو المشروع الذي يلقى التعاون من جانب جناح مؤثر في السلطة السعودية على رأسه ابن ولي عهد المملكة، بندر بن سلطان، وربما من جانب أنظمة عربية عديدة استقبلت الرئيس بوش، في الأسابيع الأخيرة، بترحاب قلّ نظيره، فيما كان البند الأهم على جدول أعماله صفقات أسلحة بعشرات المليارات من الدولارات، وبالتالي إعداد مقدِّمات حروبٍ جديدة في المنطقة وعليها، وبوجه أخص على إيران، لا يمكن التكهن بحجم الكوارث الإقليمية، وحتى الكونية، التي قد تفضي إليها!
كذلك قيل الكثير أيضاً ولو مع بعض الحياء، وإن من دون أدلة دامغة على ذلك، عن دور أجهزة أمن داخلي لبنانية، في نقل أولئك المقاتلين من مخيمات بيروت (برج البراجنة بوجه خاص) إلى مخيم نهر البارد؛ ومن ثم عن التمويل الذي كان يلقاه هؤلاء من جانب الحالة الحريرية المحلية وثيقة الارتباط بالنظام السعودي، قبل أن تعيد الإدارة الأميركية النظر في الموقف من المنظمة الأصولية ـــــ التي كانت قد رسَّخت جذورها في المخيم الشمالي وبدأت تتضح في آن ٍ معالم خروجها مما كانت مرشحة له أصلاً، بصفتها حصان طروادة سنياً في مواجهة حزب الله، في اتجاه علاقة وثيقة بمنظمة «القاعدة» ومشاريعها المستقلة ـــــ فتوعز إلى حلفائها المحليين التحول في الموقف منها باتجاه تصفيتها.
وبالطبع، إن التحقيق «النزيه والصارم»، الذي يفترض أن تضغط باتجاه إجرائه، في تاريخ قريب وقبل استكمال إزالة الأدلة على ملابسات ما حدث بالفعل، حركة شعبية لبنانية وفلسطينية مؤثرة، يمكن أن يكشف الحقائق بخصوص ذلك كله، وبخصوص التصفيات الليلية التي طالت مجموعة بكاملها من عناصر «فتح الإسلام»، في طرابلس، في أوائل العشرينيات من أيار الماضي، على يد الأجهزة الأمنية ـــــ التي باتت تحت السيطرة شبه المطلقة لتيار المستقبل ـــــ وذلك من دون تنسيق مع الجيش.
وقد كان من بين أهدافها، على ما يبدو، توريطه، كما حصل فعلاً، في الحرب الطاحنة التي تلت ذلك في نهر البارد؛ وفي الوقت عينه تصفية مسؤولين، وحتى عناصر عادية، في «فتح الإسلام»، على اطلاع وثيق على العلاقة بالتيار المذكور وحتى، كما أشيع مراراً، بقيادات أمنية، وذلك استباقاً لأي تحقيق جدّي محتمل لاحق.
وهو السلوك نفسه الذي سوف يُتَّبع لاحقاً، حين تمّت تصفية أحد قادة مجموعة الضنية المعروف بأبي جندل، في أسواق طرابلس الداخلية، في الأيام الأولى من القتال، علماً بأنه كان أعزل من السلاح، ويجلس سلمياً في مكان عام؛ وفي ما بعد، وإثر انتهاء معارك نهر البارد، في ما يتعلق بمصير أبي هريرة، الذي كان قائداً، هو الآخر، في المجموعة المذكورة، قبل أن يلتحق بـ«فتح الإسلام» مع العديد من مقاتلي هذه الأخيرة، ويشارك عن كثب في حرب المخيم، لتتم تصفيته بعد أيام على انتهاء المعارك، في ظروف ملتبسة جداً.

خلال الحرب وبعدها

لا ريب في أن مقاتلي منظّمة «فتح الإسلام» قد استفادوا من عنصر المفاجأة، المتمثل في عدم معرفة الجيش، في الليلة التي شهدت انقضاض قوات الأمن الداخلي على مراكز المنظمة المشار إليها، في طرابلس، بهذا التطور الخطير. وهكذا تمكنوا من مباغتة مواقع الجيش المشرفة على مخيم نهر البارد والإجهاز على العشرات من الضباط والجنود. وهو الأمر الذي جعل قيادة الجيش تتخذ قرارها باستئصال المنظمة المذكورة، ولو على أنقاض المخيم الموجودة فيه، والانتقال فوراً إلى التنفيذ، على الرغم من وجود عشرات الألوف من السكان الفلسطينيين في المخيم بشقيه، الأصلي (أو القديم)، والجديد، علماً بأن هذا الأخير كان يؤوي أيضاً أكثر من تسعين مسكناً لعائلات لبنانية. وهو الأمر الذي أدى في الأيام الأولى، قبل اضطرار أهالي المخيم إلى مغادرته، تحت القصف الشديد إلى سقوط العشرات من القتلى بين السكان المسالمين (ثمة إحصاءات تشير إلى نحو 47 قتيلاً من هؤلاء) عدا الجرحى والمعوقينوبالطبع، وفيما لا يسع أي مراقب موضوعي للفعل وردود الفعل إلا استفظاع الجريمة الغادرة التي ارتكبها إرهابيو «فتح الإسلام» بحق الجيش، لا بد من التشديد أيضاً، انطلاقاً من التطورات الميدانية والسياسية التي رافقت معارك نهر البارد، وتلتها من ثمَّ، وصولاً إلى الآن، على الملاحظات الآتية:
أولاً: إن قرار المواجهة الشاملة من جانب قيادة الجيش، الذي لقي تشجيعاً قطيعياً واضحاً من جانب معظم القوى السياسية المحلية، على اختلاف مشاربها وأهوائها ومواقعها، سواء في السلطة، بوجه أخص، أو خارجها (عدا التشجيع الإقليمي والدولي أيضاً)، إذا كان قد انطلق، في الظاهر، من الضرورة الحاسمة لتصفية حالة إرهابية ظلامية، مرتبطة بمنظمة «القاعدة»، إلا أنه تعامل مع الوجود الفلسطيني في لبنان بشكل سافر جداً من مواقع عدائية، ومستهينة بأبسط الحقوق الإنسانية لشعب مهجَّر، ولاجئ ويتعرض لشتى أشكال الاضطهاد. ومن هذا المنطلق، إذا كان قد استدرك أن الخطيئة البشعة المتمثلة في قصف المخيم، في الأيام الأولى، عشوائياً، هي التي أدت إلى سقوط الخسائر البشرية الكبيرة على صعيد السكان المدنيين، فهو قد عمد بعد خروج هؤلاء إلى التعامل مع آلاف المساكن التي سبق أن بناها هؤلاء وأثثوها، ضمن شروط شديدة القساوة ـــــ هي تلك التي واجهتهم بها الحكومات اللبنانية المتعاقبة، منذ لجوئهم في عام 1948، حارمة إياهم من معظم الحقوق الطبيعية في العمل والتملك وممارسة شتى الحريات الديموقراطية التي أقرّتها المواثيق الدولية ـــــ تعاملاً لا نبالغ إذا وصفناه بأقصى الهمجية. وهذا ما تظهره الصور التي تسرّبت من المخيَّم، ولا سيما بعد وقف القتال، وما أمكن أن يشاهده كل الذين تسنَّى لهم أن يدخلوا إليه، لاحقاً، بصورة أو بأخرى. لقد تعامل الجيش اللبناني مع المخيَّم على أساس أنه أرض محروقة، وهو ما سنوضحه أكثر بعد قليل.
ثانياً: إنّ الموقف الصحيح الوحيد الذي جرى التعبير عنه في الأيام الأولى للمعارك، من جانب قوة فاعلة أساسية في الساحة السياسية المحلية، حين رأى الأمين العام لحزب الله أن المخيم خطّ أحمر، هذا الموقف لم يتلازم مع أي مسعى فعلي لترجمته على الأرض، وسرعان ما جرى تناسيه. وهو مأخذ لا ينبغي أن يسجَّل فقط على الطرف المذكور، بل على شتى القوى الديموقراطية واليسارية، أيضاً، التي امتنعت هي الأخرى (ما عدا بعض الأفراد والمجموعات الهامشية، إجمالاً، في ما يسمى المجتمع المدني) عن الضغط لفرض اعتماد أسلوب آخر في تصفية «فتح الإسلام» لا يضيف إلى مآسي الشعب الفلسطيني كوارث جديدة. ونحن لا نقصر نقدنا هذا على القوى اللبنانية وحسب، بل نشمل به أيضاً المنظمات الفلسطينية المحلية، فضلاً عن السلطة الفلسطينية في الداخل، بشقيها
المتصارعين.
ثالثاً: إنّ قيادة الجيش تعمّدت رفض عروض متكرّرة، وإن من دون ما يكفي من الإلحاح، من جانب المنظّمات المنوَّه عنها، بأن تتولّى بنفسها إنهاء ظاهرة «فتح الإسلام»، بقواها الذاتية، داخل البارد، بحيث لا تؤدّي تصفية هذه الحالة الظلامية إلى دمار المخيم وتهجير أهله كما حصل بالفعل، في ما بعد.
رابعاً: إنّ أهالي المخيّم، سواء خلال مغادرتهم القسرية له، أو بعد تكديسهم في مخيم البداوي القريب، تعرضوا لمعاملة كريهة للغاية من جانب عناصر الجيش، كشفت وسائل الإعلام ومنظمات حقوق الإنسان المحلية والأجنبية صورة عنها في حينه. أكثر من ذلك، كان لافتاً أن قيادة الجيش تعمدت أن تزج في القتال، الذي دارت رحاه حول المخيم وداخله، غالبية من العسكريين من أبناء عكار بالذات، مع ما عناه ذلك من أن معظم القتلى وجرحى الجيش كانوا من القرى والبلدات القريبة من نهر البارد والمحاذية له، الأمر الذي أدّى عملياً إلى خلق عداء صارخ من جانب أبناء ذلك الجوار حيال أبناء المخيم الفلسطيني، من الواضح أنه ستكون له انعكاسات سلبية طويلة الأمد على العلاقة بين الطرفين، بعدما كانت علاقة وطيدة على امتداد عشرات السنين عبّرت عن نفسها بين ما عبّرت بالكثير من المصاهرات، وفي الوقت نفسه بازدهار كبير للتجارة بين المخيم الفلسطيني ومحيطه الطبيعي اللبناني. علماً بأنه لم يكن بين مقاتلي «فتح الإسلام» أكثر من نزر ضئيل جداً من الفلسطينيين!.
إن المعنى الفعلي لما أوردناه أعلاه سوف يتّضح أكثر عبر ما حدث بعد اختتام الأعمال الحربية ويحدث إلى الآن، ونختصره بما يأتي:
ـــــ التدمير المنهجي، في الأيام القليلة التي تلت انتهاء المعارك، لشريط من الأبنية على امتداد شاطئ البحر، وبعمق يزيد على مئة وخمسين متراً. ويشاع أن الجيش سيقيم هناك قاعدة عسكرية، ويمنع أي إعادة بناء على امتداد ذلك الشريط بحجّة الحيلولة دون تهريب السلع إلى المخيّم، فضلاً عمّا يُتداول من مخطّط لتوسيع الطريق العام الذي يخترق المخيم القديم، بما يقتطع نسبة كبيرة جداً من مساحته من دون تعويض بإضافة ما يعادلها، الذي يصل تقريباً إلى نحو 50 ألف متر مربع. وهو ما معناه أن المخيّم، بعد إعادة إعماره ـــــ إذا حصل ذلك ـــــ لن يتسع لكل سكانه السابقين، وسيحول ذلك دون عودة نسبة عالية منهم!
ـــــ منع أي من السكّان من العودة الآن إلى المخيم القديم. وحتى بخصوص «زيارة» هؤلاء لبيوتهم، أو ركامها، سعياً وراء العثور على وثائق ثبوتية، أو أي أشياء لها علاقة بذكرياتهم الحميمة، فإن ذلك لا يتم إلا بتقنين صارم، بحيث لا يدخل يومياً أكثر من 15 شخصاً! أما بخصوص ما يُسَمّى المخيم الجديد، وهو الموقع السكني الملاصق للمخيم الأصلي، والمتمثل في أراض سبق أن اشتراها أبناء المخيم المذكور وبنوا فيها مساكن لهم كانت نسبة الدمار فيها أقل بكثير مما فيه، فالعودة إليه تتمّ بموجب تصاريح عسكرية صعبة المنال جدّاً وتوجب الانتظار أياماً (تصل أحياناً إلى أسبوعين). علماً بأن الدخول، مثل الخروج، يتمّان بعد إبراز تلك التصاريح على الحواجز العسكرية المحيطة بالمنطقة، وبعد الكثير من الإهانات والإذلال والوقوف في الصف ساعات طوالاً. وعلماً بأن عدد العائدين لا يتجاوز ثمانمئة عائلة، من أصل 40 ألفاً من السكّان الأساسيّين للمخيم ومحيطه، بسبب عدم تقديم الدعم المالي للترميم، أو إعادة البناء، إلى الآن.
ـــــ على الرغم من التعهدات المتكرّرة من جانب الرئيس السنيورة، خلال معارك الصيف الماضي، بإعادة الإعمار فور توقف القتال، فقد مرت إلى الآن خمسة أشهر، من دون حتى إزالة ركام الأبنية المدمرة، الذي يوجب وحده عدة أشهر، ولا شيء يوحي أن إعادة البناء، إذا تمت، سوف تنجز في مدىً منظور. مع ما يعنيه ذلك من معاناة قاسية جداً لعشرات الآلاف من السكان، الذين تتكرّر معهم الظروف المأساويّة لنزوحهم الأصلي عن بيوتهم ومدنهم وقراهم في فلسطين، ويجد الكثيرون منهم أنفسهم مضطرين للسعي وراء الهجرة إلى ما وراء البحار!
ومن الواضح أن كلّ ذلك كان من ضمن أهداف عدة بات يمكن استجلاؤها خاصة مع مرور الوقت، وبعد التطورات التي طرأت على الصورة حتى الوقت الراهن. وهي الآتية:
‌ـــــ توجيه ضربة قاصمة إلى المخيم وسكانه، على الأقل بواقعه السابق، بما هو مخيم مسلح ومزدهر، وعلى علاقة وثيقة وودية بمحيطه اللبناني.
ـــــ إكراه نسبة عالية من أهله على الهجرة، أو على القبول، في ظروف لاحقة، بما تضغط باتجاهه إسرائيل والإدارة الأميركية، من توطينٍ ثمة جزء أساسي من الشريحة السياسية المسيطرة محلياً ضالع في مخططه وموافق عليه ضمنياً.
ـــــ فرض السيطرة العسكرية والأمنية المطلقة على من يبقى من سكان المخيم، بطريقة تذكّر بما كان قائماً قبل صعود المقاومة في أواخر الستينيات.
ـــــ وبالطبع، بنتيجة كل ذلك، وخاصة بفعل الطريقة الوحشية التي عومل بها المخيم، على امتداد حرب الصيف الأخير، التي لا تختلف كثيراً، من حيث النوع، عن الحرب التي شنّتها إسرائيل قبل ذلك بعام واحد تقريباً على الأراضي اللبنانية، هل سيكون من قبيل المبالغة، أو التجنّي، أن نستشم من ذلك مسعىً لدى من قادوا تلك الحرب ومضوا بها إلى نهاياتها الحالية، للحصول على شهادة حسن سلوك، سواء من الإدارة الأميركية، أو من الفريق الحاكم، الموالي لتلك الإدارة، على طريق الانتخابات الرئاسية المتعثرة بالفعل، حتى الآن، ولكن التي بات المرشح الوحيد لها هو قائد الجيش؟
عشرات الآلاف من فلسطينيّي نهر البارد ونسائهم وأطفالهم يقضون هذا الشتاء القارس جداً خارج بيوتهم، بعد أن حُرموا مرّة أخرى، ليس فقط من المسكن، بل أيضاً من كل الأشياء الحميمة التي ينسجها الناس بعضهم مع بعض، في حياتهم اليومية، وفي صلتهم بالمكان وسكّانه، وفي علاقتهم بعملهم. فضلاً عن ذلك، لقد خسروا هذا العمل وأبسط شروط حياة إنسانية كان كل شيء يضغط لحرمانهم منها، بما فيها قوانين الدولة اللبنانية. إن واجبنا جميعاً، كل من يزعمون انهم تقدّميون، أو وطنيون، أو ديموقراطيون، أو مجرد مهتمين بالكرامة البشرية، من كل الملل والطوائف والأديان، أو حتى خارجها، أن نعلن تضامناً حقيقياً ملموساً مع هؤلاء اللاجئين الجدد، الذين نتحمل مسؤولية ثقيلة جداً، لأننا سمحنا بأن تُرتكب هذه الجريمة بهم أمام أعيننا، ووقفنا مكتوفي الأيدي وهم يستباحون، وهو تضامن لن يكون جدياً إلا بقدر ما ينجح في إجبار السلطة القائمة على المبادرة فوراً إلى إعادة إعمار المخيم، وتعويض كلّ الخسائر التي تعرّض لها أبناؤه، وفوق ذلك لتعديل القوانين الحالية بما يتيح تمتع كلّ الفلسطينيّين في الأراضي اللبنانية بكلّ الحقوق والحريات المدنية المفترض أن يتمتع بها المواطن.
* كاتب ومحامٍ لبناني