ناهض حتر *
فشل مؤتمر المعارضة الفلسطينية، المنعقد في دمشق الأسبوع الماضي، في أن يكون حدثاً، بل غاب في الممارسات المعتادة للأحدث، مؤكّداً العلّة المتجذّرة في الفكر السياسي الفلسطيني، النابعة من إنكار الواقع تحت شعارات رفضه. وبين الإنكار والرفض، تناقض. فالإنكار قبول ضمني يتحاشى الحقيقة، بينما الحقيقة هي الأساس الأول للرفض.
أعاد مؤتمر دمشق تأكيد شعارات، هي صحيحة في حدّ ذاتها، لكنها لا تقدّم أجوبة من أي نوع على أزمة الحركة الوطنية الفلسطينية التي انهار جناح أساسي منها (فتح وحلفاؤها) والتحق بالمشروع الأميركي ـــــ الإسرائيلي، آخذاً معه بالطبع، حواضنه الاجتماعية، أي قسماً أساسياً من الشعب الفلسطيني. فالقوى السياسية، حتى تلك الأشد سلطوية، ليست مجرد قيادات فردية أو فئوية أو مدعومة من الخارج ـــــ ولو كانت كذلك فقط، لا تعود في قائمة القوى، ويمكن إلغاؤها ـــــ ولكنها تنظّم حيزاً اجتماعياً، وتعبّر عن مصالح ورؤى ومشاعر. ولذلك، حتى رجل الأمن المتأسرل، محمد دحلان، يستطيع أن يحشد جماهيره عند الحاجة.
غير أن المعارضة الفلسطينية تنكر هذا الواقع، تتجاهله، تطمسه. فمن غير الممكن أنها لا تراه. إن خط «السلطة» ليس معزولاً بين فلسطينيي الداخل والخارج. وهذا الواقع لا يمكن تغييره بمجرد تكرار موقف مبدئي عن عروبة فلسطين من النهر إلى البحر.
هذا لا يعني أن فلسطينيي «السلطة» ليسوا يائسين من «العملية السلمية». ولكنهم، بالإضافة إلى شبكة العلاقات والمصالح، يدعمون الخط الذي يتوهمون أنه يوفّر لهم الحد الأدنى من «الاستقرار»، بأي ثمن.
وتستند المعارضة الفلسطينية، بالطبع، إلى تأييد اجتماعي وجماهيري، تُرجم بالفوز الكاسح لـ«حماس» في الانتخابات التشريعية لسنة 2006. لكن شراسة الهجمة السلطوية والإسرائيلية والأميركية والعربية عليها، أنهكت حواضنها الاجتماعية، بينما ظهر أن خطّ المقاومة هو، مثل خط «العملية السلمية»، مغلق. ذلك أن القوة القائدة في المقاومة الفلسطينية الآن، أي «حماس»، لا تملك فعلياً أكثر من المساومة على «البقاء» في «سلطة» غزة بوصفها الحيّز الوحيد لفعلها السياسي. ولعلّ سقف الصفقة الممكنة على مسار غزة لا يتعدى وقف العدوان عليها وفك الحصار عنها مقابل الهدنة، أي وقف المقاومة. ولكن هيهات!
وما يجعل هذه الحقيقة البسيطة مطموسة هو أن التحالف المضادّ، وفي صلبه التفاهم السلطوي ـــــ الإسرائيلي، يرفض مثل هذه الصفقة، لأنها تسمح ببقاء «حماس»، وتمنع واقعياً الصفقة الأكبر، صفقة عباس ـــــ أولمرت، لتصفية القضية الفلسطينية من الاكتمال.
لم يتوقّف العدوان الإسرائيلي يوماً واحداً على غزة، من التوغّلات إلى القصف إلى الاغتيالات، لكن الحصار يظلّ، بحدّ ذاته، عدواناً إجرامياً بشعاً مستمراً، وضع جماهير القطاع في ظروف لاإنسانية دفعت سبعمئة ألف منهم، في أول ثغرة على الحدود مع مصر، إلى ما يشبه الهروب الجماعي من سجن مقيت.
إنّ مشهد نصف سكّان غزة وهم يتدافعون للخروج من القطاع، لا يدلّ على أن الجماهير الغزّاويّة هي في موقع جهادي، ولكنها في موقع اليأس الشامل. غير أن العقل السياسي الفلسطيني المعارض لم يستطع أن يرى، في الاقتحام الغزاوي للحدود المصرية، سوى حركة جماهيرية نضالية. وهي كانت ستكون كذلك لو أن الاقتحام الجماهيري كان للحدود الغزاوية ـــــ الإسرائيلية للتواصل مع الضفة الغربية مثلاً.
لو كان اتجاه الهدف نحو الداخل الفلسطيني، ومواجهة جيش الاحتلال، هل كان سبعمئة ألف مواطن غزاوي سيشتركون في الاقتحام؟ سؤال مطروح على قيادة «حماس» والمعارضة الفلسطينية.
نقل عن الراحل جورج حبش، قبيل وفاته، بأنه «سعيد لاقتحام الغزاويين الحدود مع مصر» وأنه «سيأتي يوم تقتحم فيه الجماهير كل الحدود العربية». وحين ألقيت هذه الكلمات في جنازته في عمّان، ضجّ المشيعون بالتصفيق. وهكذا نكون أمام حالة مثالية للعقلية الفلسطينية القادرة على تحويل فاجعة إلى انتصار، وتصوير مسيرة هروب جماعي، كأنها حركة ثورية لتحقيق الوحدة
العربية.
إن مشهد الهجرة الجماعية من غزة مرعب بالنسبة لأي قيادي فلسطيني أو عربي، يتحلى بقدر من المسؤولية. فهذا المشهد يمكن أن يتكرر من الضفة الغربية باتجاه الأردن، حيث لا يوجد فاصل صحراوي فسيح، بل التحام جغرافي وسكاني وسياسي واجتماعي يسمح بتدفق جماهيري أكبر بما لا يقاس من التدفق الغزاوي على سيناء. وهذا هو المجال الوحيد لتحقيق نبوءة الحكيم.
في مقال لافت للصحافي الإسرائيلي إيلام شراقا (حديث مع الجزيرة نت، 31/1/ 2008)، كتب أنّ «وضع قطاع غزة في حالة حصار دائم، يهدف إلى ممارسة ضغوط نفسية على ساكنيه، وعلى نحو لا يتمكنون بعده سوى من البحث عن الحرية والتزود بالمواد الأساسية، مهما كان الثمن».
ويرى أنّ «إجبار الفلسطينيين على فتح معبر رفح عنوة كان بهدف جعله الملاذ الوحيد أمامهم حيث يمكنهم الفرار من خلاله إلى أي مكان آخر عند الضرورة». ويلاحظ شراقا، نقلاً عن مصادر إسرائيلية، أن جنرالات إسرائيل يستعدون لشن عملية عسكرية كبيرة في غزة ـــــ تعيد لهم الاعتبار بعد تقرير فينوغراد الذي قرّعهم على فشلهم في الحرب على لبنان صيف 2006، «فيما لن يجد الفلسطينيون سوى الحدود المصرية لعبورها بحثاً عن ملاذ آمن».
جماهير الأراضي المحتلة في وضع صعب جداً، أمنياً واقتصادياً واجتماعياً وإنسانياً. وهي تتجه إلى الانفضاض عن الأطروحات السياسية الفلسطينية، من الموالاة أو المعارضة، وإلى اليأس من الحل السلمي ومن الجهاد معاً. وهي حالة ينبغي أن يتداركها بلا تأخير الوطنيون الفلسطينيون الذين يجب عليهم في مهمة أولى إدراك واقع مجتمعهم ومطالبه، لا إثقاله أكثر فأكثر، حتى اليأس الجماعي.
لقد قدّم الفلسطينيون تضحيات كبيرة، وأظهروا استعداداً نضالياً دؤوباً، لكنّ تضحياتهم ونضاليتهم كانت، وما تزال، تضيع وراء برامج سياسية غير مطابقة للمهمّات المطروحة فعلياً، وبالتالي غير قابلة للإنجاز. وهي تدور في صيغة أصبحت من طبائع السياسة الفلسطينية، تقوم على طرح مهمات أعلى، وتجاهل المهمات الفعلية، بينما تجري الحركة الفعلية حول مهمات أدنى. هكذا لا تعود الشعارات الأعلى تمثّل تطلعاً تاريخياً، بل حجّة في الصراع اليومي على المهمات الأدنى. وتكون النتيجة، في كل مرة، خيبة وآلاماً ويأساً.
إنّ المجال الفعلي أمام حركة «السلطة» لا يتعدّى التفاهم مع الاحتلال الإسرائيلي لإدارة كانتونات منفصلة في الضفة الغربية، لكن «السلطة» تبشّر «بدولة وطنية» مستحيلة في الضفة والقطاع، تنشأ بالتفاوض مع إسرائيل. وبينما تلحّ «حماس» على أطروحة البحر والنهر، فإنّ المجال الوحيد المفتوح أمامها هو الاستقلال في كانتون غزة. وهو ما يقود الجماهير الفلسطينية للبحث عن حلول واقعية خارج هذين الشعارين والخيارين، ففلسطينيو الضفة يتسربون، بكثافة غير مسبوقة، إلى الأردن، وليس مستبعداً أن يقتحموا الحدود في المستقبل المنظور، في مشهد مشابه لما حدث على الحدود الفلسطينية ـــــ المصرية.
على هذه الخلفية، ماذا ينتظر من فلسطينيي الأردن الذين حازوا جنسية واستقراراً وامتيازات، سوى البحث عن حل سياسي داخل الأردن؟ أما فلسطينيو لبنان وسوريا، فهم يتطلعون إلى المثال الأردني كأفضل مآل ممكن.
إذا كان شعارا «الدولة» و«البحر والنهر»، غير مطابقين لمهمات الكفاح الفلسطيني الراهنة، فما هو الشعار المطابق؟ أحسب أن ذلك الشعار هو: وقف هجرة الفلسطينيين من أرضهم.
تضع إسرائيل أمام نظرها، في المقابل، مهمة تهجير الفلسطينيين بوصفها الاستراتيجية الرئيسية. ولقد طرب القادة الإسرائيليون لمشهد الهجرة الجماعية المؤقتة من غزة إلى مصر. وتفكر الدوائر الإسرائيلية الآن بفصل غزة إذا قبل المصريون بإدارتها، ما يفتح الباب أمام الضغط على الأردنيين لإدارة كانتونات الضفة، أو اجتياح غزة وإعادة احتلالها، في ضوء سابقة اقتحام الحدود المصرية، ما يفتح الباب للتهجير تحت النار، وتكرار مأساة 48 ومأساة 67. ولقد أصبح هذا الخطر داهماً، وانفتحت شهيّة تل أبيب للحصول على قطاع غزة من دون معظم سكانه بعدما كانت تريد الخلاص منه بسبب سكانه، ما يكرّر مصير الضفة الغربية.
حوّلت إسرائيل الضفة بكاملها، برغم أوسلو بل قل بسببها، إلى مجال استيطاني. فالمستوطنات المتوسعة باستمرار، تستقطع لها مجالاً حيوياً من الأراضي، وكذلك تفعل الطرق الالتفافية والحواجز الأمنية الكثيفة، وأبرزها وأكبرها الجدار الاستيطاني الذي يخترق التجمعات السكنية الفلسطينية على طول «الحدود» مع إسرائيل ومع الأردن معاً. لقد حوّل الإسرائيليون المدن والبلدات الفلسطينية، عملياً، إلى سجون. والحياة اليومية تكاد تكون مستحيلة في الضفة الغربية المقطعة الأوصال. وكل مَن يعيش في الضفة يواجه مشقّة لا يمكن احتمالها للانتقال بين كانتوناتها، بحيث إن السفر من نابلس إلى عمان هو أسهل منها إلى الخليل. هذا الواقع المرير لا يعيشه قادة «السلطة» ممن يحوزون بطاقات «vip».
تجزئة الضفة تمنع التكوّن الوطني والحياة السياسية والاقتصادية والثقافية التي كانت ناشطة قبل قيام «السلطة»، وتقسيم الصفة إلى مناطق أ وب وج... والاعتراف بالمستوطنات «الشرعية» وتحويل الأراضي الفلسطينية من أراض محتلة موصوفة في القانون الدولي، إلى أراض «متنازع عليها»، وتخضع للمفاوضات الثنائية.
ألا يوضح كل ذلك المهمات الفعلية المطروحة فلسطينياً؟ إنّها تتمثّل في النضال الجماهيري ضدّ الجدار والعزل والحصار والحواجز الأمنية والاعتقالات والاغتيالات والاجتياح وتخريب الأراضي الزراعية ومنع الاتصال الجغرافي الداخلي. وتتطلب مواجهة كهذه اندماج القسم الأساسي من المجتمع الفلسطيني في عملية نضالية تضع ما يسمّى «العملية السلمية» وراء ظهرها، وتدرك في الوقت نفسه أن استدراج أغلبية الجماهير للعمل النضالي المحدَّد الأهداف، يتطلب وقف الأعمال المسلّحة. فالمهمة المطروحة الآن ليست التحرير، بل منع التهجير. والهدف هو بالطبع إجبار الاحتلال على تطبيع الحياة اليومية في الأراضي المحتلة، والامتثال للقانون الدولي في ما يتصل بواجبات الدولة المحتلة، ووقف الاعتداءات والحصارات وإزالة الجدار والحواجز والاستيطان، بحيث يستطيع الفلسطينيون العيش والبقاء وتطوير البدائل السياسية. وأبرزها، في رأيي، بديل الاندماج باتجاه المثال النضالي الجنوب أفريقي.
* كاتب وصحافي أردني