سعد الله مزرعاني *
قرّرت لجنة «فينوغراد»، وهي لجنة لم يطعن أحد في إسرائيل بقرار تأليفها (رغم أنّه صدر عن الحكومة نفسها)، ولا بصلاحياتها ولا بأعضائها، أنّ إسرائيل قد «خرجت إلى الحرب بقرارها وإرادتها الخاصة»، وأنّ الحرب «كانت بمبادرتها»، وأنّ المستوى السياسي فيها يتحمّل «مسؤولية مطلقة عن اتخاذ القرار بشأن الحرب وإدارتها».
ثمّ قرّرت هذه اللجنة في ما أعلنته من تقريرها (الذي حجبت القسم الأكبر منه «لأسباب تتعلّق بأمن الدولة وعلاقاتها الخارجية»)، أنّ إسرائيل «لم تنتصر فيها (الحرب)، وأن منظمة شبه عسكرية صمدت أمام الجيش الأقوى في الشرق الأوسط». وفي مكان آخر يمثّل استكمالاً أو استئنافاً للاستنتاجات نفسها، يؤكّد التقرير أن «طريقة الخروج من الحرب أدّت إلى نتائج سيئة. والتخبّط الذي شاب الحرب، والتخبّط على المستوى السياسي، جعلا حرب لبنان فشلاً كبيراً وخطيراً».
لقد حسم التقرير بشأن مسؤولية إسرائيل عن الحرب، وحسم بشأن خسارتها لهذه الحرب. وهذان الاستنتاجان الرئيسيان اللذان بقيا وسيبقيان، مع ذلك، مدار بحث ونقاش واجتهاد في لبنان ولدى بعض العرب، لم يكونا السبب الأساسي لتأليف اللجنة، ولا لبتّ ما انتهت إليه من استنتاجات في هذا الصدد. فمن المعروف تماماً أنّ حلقات الإخفاق الإسرائيلي في حرب تموز عام 2006، قد تلاحقت وتراكمت تباعاً. وأدّى ذلك إلى سقوط رؤوس كبيرة، في الجيش والحكومة، وصولاً إلى رئيس الأركان ووزير الدفاع... حصل ذلك في مجرى الحرب: بعد أيام قليلة، أو أسابيع أقلّ، أو فور انتهاء الحرب... ولم يناقش «المستوى السياسي»، ولا المستوى العسكري، ولا المواطن الإسرائيلي العادي (حزبياً كان أو غير حزبي) في مسألة خسارة إسرائيل للحرب أو لا. لقد انصبّ الغضب الشعبي والسياسي آنذاك، على الإدارتين السياسية والعسكرية. وتألفت اللجنة تحت ضغوط ذلك الغضب من أجل تحديد الإخفاقات والمسؤوليات والاستنتاجات المناسبة بهدف «إحداث تغيير منظّم ومعمَّق في طريقة اتخاذ القرارات السياسية والعسكرية وطريقة التفكير... وعدم الخوف من احتمالات الفشل الذي قد يؤدّي إلى التردّد في اتخاذ قرارات مهمة وحاسمة في وقتها الضروري...»، كما ورد في تقرير اللجنة.
أريد أن أقول، بسرعة، إنه ما بين ضغوط الشارع والمعارضة الإسرائيليين من أجل التحقيق في أسباب الهزيمة، واستجابة الحكومة بتأليف اللجنة (بعد مراوغة)، وإنجاز اللجنة لتقريرها، أثبتت إسرائيل، مجتمعاً وسلطة، قدرة غير عادية على التعامل مع أزمة مصيرية، أي غير عادية هي الأخرى.
كان يمكن أولمرت وفريقه أن يكابرا، وأن يتذرّعا بموقف النظام الرسمي العربي، للهرب من المسؤولية عن الحرب. وكان يمكنهما، خصوصاً، أن يستشهدا بما يقوله فريق وازن في لبنان عن نتائج هذه الحرب. إلا أن «سياسة النعامة» هذه، لم تجد من يتبناها أو يلجأ إليها في صفوف المستوى السياسي أو المستوى العسكري في الدولة الصهيونية.
ويمكن القول الآن، إنّ إسرائيل قد أقرّت بهزيمتها، وباشرت سلسلة طويلة من التغييرات التي أوصت بها اللجنة. وها هو أولمرت الذي يمثّل إصراره على الاحتفاظ بمنصبه النقطة «السلبية» الوحيدة تقريباً، في مسار التحقيق في الإخفاقات وتحديد المسؤولين عنها، يبرّر بقاءه في السلطة، بسعي مثابر من قبله لتنفيذ توصيات اللجنة. وبالمناسبة، يجب القول إنّ الجيش الإسرائيلي قطع شوطاً كبيراً في التعامل مع أخطائه وثغرات أدائه في كل المجالات. يؤكّد ذلك عسكريون إسرائيليّون أزعجهم كثيراً ألّا يلحظ التقرير (في نسخته الأخيرة) ذلك، رغم أن معالجة الأخطاء والثغرات، قد استندت إلى توصيات التقرير نفسه.
هذا ما فعلته إسرائيل بهزيمتها. فماذا فعلنا نحن بانتصارنا؟
لا جدال أنّنا هنا إزاء مسألة شائكة بكل المقاييس: ابتداءً من صياغة المفاهيم، وصولاً إلى صياغة الاستنتاجات. ويمر كل ذلك، بالضرورة، عبر المشهد المعقَّد والمأزوم، للوضع اللبناني، فضلاً عن الوضع العربي بكلّ صراعاته وأزماته وتخلّفه عن موجبات المواجهة، بالمعنى الشامل للكلمة.
من نافل القول أنّ ثمة خلافاً جوهرياً قد اندلع في لبنان، أثناء حرب تموز، وخصوصاً، بعدما سكتت المدافع، تناول المسؤولية عن وقوع الحرب. وتفاقم هذا الخلاف حول تداعيات نتائج الحرب على الوضع اللبناني. وهي تداعيات كشفت عمق الانقسام من جهة، وأضافت إليه الكثير من التأزم والصراعات، من جهة أخرى. وفي كل ذلك، لم يكن الخلاف على مسألة إذا ما كانت إسرائيل قد هزمت أو انتصرت في هذه الحرب، إلا إشارة إلى أحد أخطر وجوه الانقسام في الوضع اللبناني. وحتى أولئك الذين اضطروا إلى التسليم بهزيمة إسرائيل، سارعوا إلى إضفاء شبهة وشكوك على تأثير الانتصار في لوحة التوازنات التقليدية اللبنانية. ويستطيع أي متتبع أن يلاحظ، كما أسلفنا، أن هذا الانتصار حين جرى اعتُرف به، فإنما حصل ذلك من باب التحذير من إخلاله بتوازنات السلطة في لبنان وبنظام المحاصصة، الطائفي والمذهبي، بشكل خاص.
وفي امتداد ذلك، تعمّق أيضاً، الارتباط السياسي لقوى الغالبية النيابية الممسكة بزمام السلطة بالقوى الخارجية، طلباً للحماية، ومنعاً لتثمير الانتصار الذي حقّقته «المقاومة الإسلامية» والشعب والجيش اللبناني، في تغييرات المعادلات السلطوية القائمة.
وتشير مجمل التطورات التي تلاحقت بعد الانتصار، إلى أنّ نتائجه أطلقت سلسلة جديدة من الصراعات، بحيث خرج فريق الأقلية البرلمانية من الحكومة، وأقفل المجلس النيابي أبوابه... إلى تعذّر انتخاب رئيس للجمهورية، في سياق أشكال من التوتّر المتفاقم باطراد، والشامل لجوانب أمنية واقتصادية وسياسية ولمجالات أساسية، هي الأخرى، تتناول موقع لبنان ودوره وتحالفاته وعلاقاته، الإقليمية والعربية والدولية.
يمكن ملاحظة أن إشارات التشكيك التي كان سباقاً إليها رئيس «اللقاء الديموقراطي» والحزب التقدمي الاشتراكي، الأستاذ وليد جنبلاط، قد ذهبت في عكس الموجة الشعبية العارمة العربية التي وجدت في نتيجة الحرب انتصاراً مذهلاً على العدو الإسرائيلي وشركائه في العدوان (الإدارة الأميركية)، والمتواطئين معه (أنظمة «الاعتدال» العربي). وكان ذلك إشارة إلى أن الحرب التي وضعت أوزارها في 14 آب 2006، قد أطلقت سلسلة حروب في الوضع اللبناني، لم تضع أوزارها حتى هذه اللحظة.
لم يكن في الوضع اللبناني، إذن، متسع لاستثمار الانتصار. وتباعاً تبلور مشهد بدأ فيه فريق لبناني كبير ومؤثر وحاكم، بالنظر إلى الانتصار على أنه هزيمة «لبنانية». وقليلة جداً كانت الأصوات والأقلام المصنفة في خانة فريق 14 آذار، التي شذّت عن ذلك الاستنتاج.
ولم يكن في الأمر مجرّد خطأ قادت إليه فئويات أو حسابات داخلية، رغم أن الحسابات الداخلية تقع في مقدمة الأسباب التي أملت الموقف من الحرب ومن أسبابها ومن نتائجها. والأخطر من ذلك، أنه حتى في مسألة «التضامن ضد العدو الإسرائيلي»، فقد دلت معطيات عديدة، على أن هذا التضامن كان شكلياً أو كان ظاهرياً أو كان انتظارياً. أما «الوعد» الحقيقي بالنسبة إلى قيادات أساسية في الموالاة، فلم يكن سوى وعد أن ينجلي غبار الحرب عن انتصار إسرائيلي يقلب المعدلات والتوازنات اللبنانية رأساً على عقب!
يصبح من غير المجدي هنا، أو يصبح غير ذي موضوع، أن نتحدث عن مسألة كيف للبنان، مجتمعاً وحكومة، أن يُثمّر ذلك الانتصار «اللبناني» الباهر، وأن يتحضّر لاحتمال عدوان إسرائيلي، ربما كان الآن قيد الإعداد ضد لبنان، انتقاماً...
ولم يشعر أبداً أولئك الذين فاجأهم وأغاظهم صمود المقاومة وانتصارها، بأي مسؤولية حيال تلك النتيجة التي تمخضت عنها الحرب والتي يمكن توظيفها لمصلحة لبنان، ألا وهي بروز تلك القوة المفاجئة نسبياً التي مثلتها المقاومة، في مجمل الواقع اللبناني والعربي.
إن في مواقف فريق 14 آذار من الخطأ ما لا يفضح الخلل في حساباته الداخلية فقط، بل أيضاً بدرجة لا تقل خطورة، الخطأ في ارتهاناته في صراعات المنطقة، وخصوصاً التحاقه ومحاولته إلحاق لبنان، بأهداف الغزو الأميركي للعراق.
لكن المساءلة والتقويم لا يقتصران على فريق واحد. فماذا عن الفريق المنتصر؟ هذا ما سنتناوله في مقالة لاحقة.
* كاتب وسياسي لبناني