لطيفة بوسعدن *
أنشأ الملك محمد السادس مجلساً أعلى يختصّ بشؤون الجالية المغربية في الخارج. وتلاقي ولادة هذا المجلس العديد من الانتقادات التي تتطلّب قبل عرضها إيراد التوضيحات الآتية:
ـــــ أولاً: للحديث عن المغاربة القاطنين في الخارج، كثيراً ما تستعمل مفردة «الجالية»، وهو مصطلح توهيمي يوحي بوجود كتلة منسجمة من الناس تنضوي تحت لوائه... والواقع أنّ مغاربة المهجر متعدّدون، على الأقل لجهة الأجيال التي ينتمون إليها. فالجيل الأول والجيل الثاني هما غير الجيل الجديد المرتبط بدول الإقامة والذي يطرح أساساً تساؤلات العلاقة بالهوية والوطن والثقافة... وهو الجيل الذي كان أحد دوافع البحث عن مقاربة سياسية جديدة لمسألة الهجرة. والمهاجرون متعدّدون أيضاً بحسب درجة انخراطهم في بلدان الإقامة، فهناك مغاربة الهامش والمغاربة الذين لا يتوفّرون على الإقامة الشرعية...
ـــــ ثانياً: يؤمّن مغاربة المهجر من الناحية الاقتصادية مورداً مهمّاً إن لم نقل أساسياً لتمويل الاقتصاد المغربي، عن طريق التحويلات المالية القوية والتي تدخل في تغطية جزء من العجز التجاري. فالمغرب يحتل عالمياً المرتبة الرابعة من حيث التحويلات المالية والتي تأتي في المرتبة الثالثة بعد الفوسفات والسياحة من حيث الناتج الداخلي الخام.
ـــــ ثالثاً: المجلس الأعلى للجالية المغربية في الخارج تأسّس وفق ظهير (مرسوم) ملكي، شأنه في ذلك شأن المجالس واللجان التي أنشأها الملك لتدبير مجالات غالباً ما تنتمي لدائرة القضايا الخلافية الكبرى، وبمعنى آخر فإن حقل الهجرة غدا اليوم حقلاً ملكياً ممأسساً.
مثّل مطلب المشاركة في الحياة السياسية الداخلية، أحد الشعارات البارزة للمهاجرين المغاربة. وقد تنفس هؤلاء الصعداء حين وعد الملك في خطاب له سنة 2005 المغاربة في المهجر بحق الترشيح والتصويت... لكنه تفاؤل سرعان ما تقلّص حين خرجت الحكومة السابقة عشية الانتخابات التشريعية بقرار يؤجل مشاركة المهاجرين في الانتخابات وذلك لأسباب سمّتها
«اللوجستيّة».
صحيح أنّ التبرير الحكومي لم يصدّقه أحد في الداخل ولا في الخارج، ورفضه بقوّة حزب العدالة والتنمية الذي رآه خروجاً عن الإرادة الملكية نفسها، الداعية إلى إشراك المهاجرين في الانتخابات، ونعتَ أحزاب الحكومة بالتخوف من اكتساح الإسلاميّين للانتخابات. والواقع أن ذلك ما أكّدته ـــــ حسب مصادر صحافية ـــــ تقارير استخباراتية تابعة للقصر من احتمال تقوية أصوات المهاجرين لكفّة الاتجاهات الإسلامية في الداخل، وصعوبة تقبّل الحكومة لناطق إسلامي باسم المهاجرين داخل البرلمان، علماً أنّه يبقى من الصعب بمكان تدخّل السلطة للحيلولة دون ذلك، بالنظر إلى وجود حد من قواعد النزاهة والشفافية إبان العملية الانتخابية في بلاد المهجر.
ومن جهة أخرى، يعرف العمل الجمعوي لمغاربة المهجر نموّاً مطّرداً، وخاصة في الدول الأوروبية، حيث المئات من الجمعيات المهتمّة بشؤون المهاجرين، وكان للدولة أيضاً دور في إنشاء بعضها لكي تؤدّي مهمة «الدبلوماسية الموازية»، بل كانت بمثابة مروج للسياسات الحكوميّة في الخارج وداعم للأطروحات الرسمية حول قضية الصحراء مثلاً، وهي مثّلت سلطة مضادة للجمعيات المعارضة للسياسات الحكومية التي طالما أزعجت النظام في عهد الملك الراحل الحسن
الثاني.
ومنذ انتهاء فريق العمل المنبثق عن المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، والمكلف بهيكلة مجلس المهاجرين، من وضع لائحة بأسماء أعضاء المجلس، استقبلهم الملك (37 عضواً من أصل 50 هم عدد ممثلي المهاجرين داخل المجلس)، معلناً بذلك ميلاد مجلس يفترض فيه تمثيل الجالية المغربية. إلا أن الانتقادات تتالت واستهدفت جميعها الكيفية التي تألّف بها المجلس. أمّا أهم ما تضمّنته فهو أن:
1ـــــ تمثيلية المجلس لم تغطّ بالتساوي كلّ دول الإقامة. ففرنسا مثلاً وإسبانيا، احتلّتا المركز الأول من حيث التمثيلية، فيما جاءت التمثيلية في الدول العربية ضعيفة بل ومنعدمة أحياناً. لكن، مع صحة تلك الملاحظة، تبقى فرنسا الدولة الأوروبية التي تستقطب أكثر من ثلث المهاجرين المغاربة.
2ـــــ طريقة تأليف المجلس اعتمدت أسلوب التعيين الملكي عوض الانتخاب، كما كان ينتظر مواطنون تشبّعوا بالعملية الانتخابية الديموقراطية في دول إقامتهم. صحيح أن فريق العمل أجرى العديد من الاستشارات داخل المغرب مع أحزاب وجمعيات حقوقية، وخارجه مع عدّة فعاليات جمعوية وأخرى مستقلّة لشرح فكرة المجلس، لكنها بقيت استشارات انتقائية، اعتمدت أساساً على التحديدات التي قامت بها القنصليّات المغربية في دول الإقامة المعنية، وهذا ربما ما أدركه فيما بعد رئيس المجلس المعيّن، إدريس اليازمي، حين صرح بأنه مهما اتسعت قاعدة المجلس فإن الآلاف من الفعاليات ستظلّ خارجه.
إن الاستشارة تلك، اعتمدت من جانب آخر على سبر آراء المهاجرين بواسطة استمارات، وبدا واضحاً أن ما يرغب فيه فريق العمل ومن يقف خلفه، هو بناء قاعدة معلوماتية لإعادة ترتيب الأوراق في ما يخصّ الرؤية الجديدة للدولة تجاه مواطنيها في الخارج. وندّد حقوقيون داخل المغرب باستمرار احتكار الدولة لملفّ المهاجرين وإبعادها لباقي الأطراف. ذلك أن قضايا المهاجرين مثّلت على مرّ العقود إحدى نقاط الاهتمام الشديد للسلطة التي لا تريد قبول تصورات مختلفة حولها.
هناك إذن تحوّل داخل الاستمرارية في ما يخصّ هذا الملف، والمقاربة هذه المرة نيو ـــــ مخزنيّة، تعتمد الاستشارة في محاولة لتقليص الهوة الفاصلة بين التصورات. ويبقى من المفارقات المسجّلة أن يصرّح أحد أعضاء فريق العمل لجريدة «المساء» المغربية بأن الفريق ظلّ مبعداً عن تطوّرات إنشاء المجلس وأن «المشاورات التي أجراها المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان لم تكن معمّقة وبنيت على استمارة تمّ توزيعها على المهاجرين». وهكذا فإن كان فريق العمل مبعداً فمن الذي أجرى الاستشارات؟ ومن الذي اقترح الأسماء الواردة في اللائحة المعروضة على الملك؟ ولماذا لم يلجأ فريق العمل وخلفه المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان ـــــ وهو بالمناسبة مؤسّسة أنشأها الراحل الحسن الثاني ـــــ لمؤسّسات استطلاع الرأي في دول الإقامة لمعرفة مدى قبول المهاجرين لفكرة المجلس؟ وهناك فعاليات من المهجر تساءلت لماذا مضيعة الوقت في إنشاء مجالس عوض المشاركة المباشرة في الانتخابات، وربطت فعاليات من اليسار بين ملف الهجرة والإصلاح السياسي والدستوري الشامل للبلاد، وطالبت بـ«دسترة» المجلس وجعله تابعاً لمؤسّسة الوزير الأول، ومسؤولاً أمام الحكومة وأمام البرلمان، لا أمام الملك.
وتقاطعت انتقادات أخرى كان مصدرها رسائل من المهجر موجهة للديوان الملكي، عن طريقة اختيار أعضاء المجلس، متهمة المجلس الاستشاري بالزبائنية وغياب الشفافية في اختيار ممثلي المهاجرين، والعمل وفق مقولة «لا نرى، لا نسمع، لا نتكلم»، حسبما علق على ذلك رئيس المجلس المغربي في أميركا.
لقد غيب أيضاً فريق العمل، رغم توفّره على خبراء في قضايا الهجرة، التجارب المقارنة. فلعلّ اعتماد معيار الانتخاب مع التعيين كان من شأنه أن يقلّص من حدّة الآراء الرافضة لصيغة تشكيل المجلس، وهو المعيار الذي اعتمدته مثلاً المملكة الإسبانية، مع فارق أنه في ما يخصّ الأعضاء المعينين في مجلس الهجرة في إسبانيا، فإن أمر تعيينهم يؤول للمؤسّسات المنتخبة، حيث لا دور للملك في هذا التعيين.
* صحافية مغربية