فايز فارس
في البدء كانت الزراعة. معها وبها انتقل الإنسان من البداوة إلى الحضارة، ونشأت المدن والأوطان والأمم. هي أساس البناء الاجتماعي والمحرّك الأوّل لدورة الحياة الاقتصادية. هي حجر الزاوية في البحث عن الاستقرار والأمن والاكتفاء الذاتي، والحصن المنيع في مواجهة الصعاب والأزمات. والأرض وفيّة لمن يعتني بها.
بعدما نجح الإنسان في تعامله مع الأرض التي يعيش عليها ومنها، كان عليه الانتقال إلى تنظيم علاقته بأخيه الإنسان، شريكه الطبيعي في صراعه من أجل البقاء. فتكوّنت الجماعات البشرية ونشأت المتّحدات والمجتمعات، ونمت الحياة الاجتماعية الاقتصادية، وتطوّرت معها قدرات الإنسان الجديد ليصبح خلاّقاً، مبدعاً، فنّاناً ومنظّماً اجتماعياً واقتصادياً.
ولا أبالغ إذا قلت إن الجمعيّات التعاونيّة الزراعيّة، بأشكالها البدائيّة والحديثة، هي أولى المؤسّسات المدنية التي شكّلت ولم تزل إحدى الأسس الثابتة في بناء المجتمعات وقيام الدولة منذ القدم. ولم تتمكّن كل الثورات الصناعية عبر العصور من التقليل من أهمية قطاع الزراعة أو احتلال موقعه الأول في آليّات دعم المجتمع المحلّي، تنميةً بشريةً وتطوّراً اجتماعياً، وصولاً إلى تحقيق الازدهار الاقتصادي والسلم الأهلي.
ولقد ثبت تاريخياً أنّ وجود قطاع زراعي منظّم كان العنصر الإنقاذي الأول الذي سمح لشعوب أوروبا، بعيد خروجهم من حربين عالميّتين مدمّرتين، وأميركا بعيد انهيار اقتصادها عام 1929، بالنهوض اجتماعياً واقتصادياً في مدّة قصيرة نسبياً. هي تجارب قاسيّة أملت منذ منتصف القرن الماضي على الحكومات في الدول المتقدّمة، واجب الدعم والعناية والحماية لهذا القطاع الحيوي الأول من أجل المحافظة على وحدتها وحريتها وسيادتها واستقلالها.
كذلك أدركت الحكومات العربية، وإن متأخرة أهمية هذا القطاع في بناء مجتمعاتها على أسس سليمة متكاملة العناصر. فلازم السوريّون «جزيرتهم»، والعراقيون ضفاف «دجلتهم وفراتهم»، والمصريون «صعيدهم»، واعتنى مزارعو المغرب والجزائر وتونس بمزارعهم ومشاتلهم التي ورثوها عن المستعمر الفرنسي ما سمح لهم بأن يصدّروا إلى لبنان الأخضر، بجباله وتلاله وسهوله الخصبة ومياهه الغزيرة وفصوله الأربعة...إنتاجهم الزراعي والحيواني، بينما حكومات «الإنماء والإعمار» الجاهلة في لبنان تركل قطاع الزراعة تارة وتتقاذفه تارة أخرى، رافضة بطريقة غير مقبولة على الإطلاق تقديم الدعم المادي له وإحاطته بالرعاية الضرورية، متجاهلة أنه من دونهما لا تقوم زراعة في عصرنا الحالي... وأنه لا حرية ولا سيادة ولا استقلال، بل تبعية وارتهان وخضوع لمشيئة الآخرين، وأن الجدوى الاجتماعية الاقتصادية تتفوق هنا بكثير على الجدوى الاقتصادية «الميركانتيليّة».
أن الاعتماد على برنامج علمي متوازن ومتواصل من أجل دعم إنماء قطاع الزراعة في لبنان، هو مدخل أساسي ونوعي، سيؤدي خلال سنوات قليلة إلى إنهاء ما يسمّى «حزام البؤس» الذي يحيط بمدينة بيروت، وعودة سكّانه الطارئين وقاطنيه المؤقتين إلى أريافهم ومناطقهم للعمل والاستقرار فيها، وينعم البلد بذلك الحدّ الأدنى من حالة الاستقرار الاجتماعي والسلم الأهلي، ويخطو خطوته الحيويّة الأولى نحو تحقيق الإنماء المتوازن.