نسيم الخوري *
بين رتق الجروح عند زاوية كنيسة مار مخايل في الشياح وفتق الجروح في قلب كنيسة مار مارون في عاصمة الأرز بيروت وما بعدها إلى الشمال، يمتدّ حبل مرعب من الدم في أذهان اللبنانيين هو طريق الشام وقد سمّاه اللبنانيون يوماً خطّ العبور والمعابر والتقسيم في لبنان. كاد يرسم هذا الخطّ مجدداً من تحت رغيف الخبز وفي الظلمة المتنقّلة المبرمجة في جمهورية العتمة، لولا حكمة الفقراء والمقاومين. لكن لو شددنا الحبل بين الزاويتين يلتمع سيف التدويل المخبّأ مع فضّة السرايا وذهبها في الأسر الجميل، وكأنه أسّ أو قاشوش الحسم في اللعبة السياسية بعدما التوت عصا موسى بتنازع عروبة النفط وعروبة الماء.
كنا نتصوّر أنّ تلك الشجرة المخيفة التي هي الحرب الأهلية قد يبست واقتُلعت من جذورها نهائياً، لولا بعض الأوراق الخضراء التي نراها تنبعث منها أمام صبية السياسة في لبنان يلعبون تحت يباسها، ويفرغون ماءهم فوق وعورتها. فمنذ عام 1975، يتخبّط اللبنانيّون في حروب مأساوية متقطّعة أدّت إلى كوارث وخسائر ضخمة ينوء تحتها وتعجز عن تحمّلها كبريات الدول وأغناها. والقسم الأكبر من القتال في تلك الحروب المتنقّلة، دار بين مجموعات تشكّلت من الطوائف المتعدّدة في لبنان، كذلك شارك العديد من الفصائل الفلسطينية في أعمال العنف والتدمير. واستمرّت «إسرائيل» تشنّ عمليات عسكرية مستمرّة على لبنان بما في ذلك الهجمات والقصف الجوي الرهيب للمدن والقرى تخلّلها ثلاثة اجتياحات واسعة واحتلال واسع لجنوب البلاد وهزيمتان مُني بها العدو. وعلى مرّ هذا الزمن الطويل من تاريخ لبنان، كانت فرنسا وأميركا وبريطانيا وإيطاليا واليمن والسعودية وسوريا والإمارات العربية المتحدة والسودان وليبيا وغيرها من الدول، كي لا نذكرها كلّها، تعمد إلى نشر قوّات في بلادنا بناءً على طلبات من الحكومات اللبنانية المتعاقبة وقرارات من مجلس الأمن بهدف وضع حدٍّ للاقتتال وإرساء الاستقرار في
البلاد.
ماذا يعني التدويل وخمسة في المئة من القرارات الصادرة عن مجلس الأمن منذ تأسيسه حتى اليوم موضوعها لبنان الوطن الجميل الجريح الصغير، الذي لا يكاد يساوي في منظومة الدول في العالم حيّاً من أحياء نيويورك! لقد أصدر هذا المجلس الدولي، مثلاً، منذ عام 1978 حتّى اليوم، ثمانين قراراً في المسألة اللبنانية ركّزت، من بين أمور كثيرة، على مسائل معلوكة تتكرّر حرفياً مع كلّ قرار، مختصرها «وقف العنف وحماية المدنيّين واحترام سيادة لبنان واستقلاله ووحدة أبنائه، وبسط السلطة اللبنانية على كل الأراضي اللبنانية» وأحياناً نراهم يضعون في بعض القرارات كلمة السلطة اللبنانية محلّ السيطرة اللبنانية. وماذا جنى اللبنانيون من هذه السطور الباردة السخيفة غير التهجير والهجرة والقتل والتشويه والتدمير والاستمرار يتامى على أرصفة الأمم؟
أجريت هذه العملية الحسابية البسيطة وأنا أتصفّح ربع قرن من الدم اللبناني وأتابع اللبنانيين السياسيين والحزبيين منهم، والمحلّلين والخبراء والعاديين من الناس، أو أشاركهم الانهماك والشجار والمناقرة خلف الشاشات مثل الصبية الصغار في ساحة لا نعلم كيف نسيّجها وقد ركّزت السلطة دعائمها المستوردة على العداء لسوريا واللعب بالصراعات الطائفية الداخلية وفلش ثقافة الفساد والإفساد عبر المال السياسي الجاهز لاقتناء كلّ شيء.
مهلاً! لا يعني هذا الحساب التحريض على الخروج من إرادات الدول ونصوصها الدولية، خصوصاً أننا مجتمع صغير منضمّ إلى الأسرة والمؤسّسات الدولية ونحترم مواثيقها وقوانينها، وأثبتنا في صراعنا الأخير مع إسرائيل أننا مجتمع جديد وقويّ ومقاوم بكلّ معنى الكلمة، ونموذجي في ممارسة الحرية والديموقراطية، بما يفوق بأضعاف ما شهدناه ونشهده من تحيز وتعمية وتضليل من الأميركيين والأوروبيين والإسرائيليين، وخصوصاً في ميادين الإعلام والتعامل مع الأحداث والوقائع.
لكن هذا يعني أنه من حقّنا أن نتساءل: هل فقدنا ذاكرتنا بالمعنى السياسي والدموي أم أننا لم ننتبه بعد إلى أنّ الحبر الدولي لم ولن يخرجنا من مستنقعاتنا الدموية؟ ألسنا في زمن تبدو فيه الأمم المتّحدة مطبعة للقرارات الأميركية أكثر منها ماسكة لناصية السلم والأمن الدوليّين؟ ماذا نفعل إذاً للخروج من هذا الأتون المتجدد في عالمٍ لا مكان فيه سوى للأقوياء؟
ولماذا يستمرّ اللبنانيون وقوداً لحروب وصراعات لا تنتهي في الشرق الأوسط أو يتركون وطنهم مشتعلاً على خطوط التماس بين الشرق والغرب؟
آلاف الأسئلة من هذا النوع، والجواب واحد وخطير: تاريخ الاستقواء بالخارج على الداخل. لن يملأ الخارج ـــــ أي خارج ـــــ هذا الوطن المجوّف تحت أسنان فريق النمل المجنون في التهام خشب الأرز. وماذا ينفع الكلام في فراغ رئاسي أو أي فراغ آخر عندما ينهال جسر البيت أي الوحدة الداخلية الوطنية.
الوحدة؟ في بلد انتفت فيه الثقة وجاء تقرير فينوغراد، مع ما كشفه من أغطية وحجبه من فضائح وطنية لا ترمَّم، يدفع الخنجر إلى القعر!
لنذكّر بواحدة فقط: «قام وزير في الحكومة اللبنانية برفقة نائب سابق بزيارة إلى سفير إحدى الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن في أثناء مناقشة مسودة القرار 1701 لوقف التدمير الإسرائيلي والعمليات الحربية في الجنوب، وطلبا منه الضغط والمماطلة في إصدار القرار ريثما يتسنّى لإسرائيل اجتثاث حزب الله أو نزع سلاحه على الأقل، وقد أبدى السفير انزعاجه من الطلب الذي وعد برفعه إلى بلده وفقاً للأصول، لكنه لم يتردّد في النصيحة أن طلباً كهذا عقوبته الخيانة العظمى والإعدام على الأقل في بلد يحترم نفسه».
تصوّروا أنّ شعباً في التاريخ ينقسم حول موقفه من مقاومته! ومع من؟ مع العدو الإسرائيلي الذي لا يزهو إلا بالدم والسفك والقتل والتدمير على الملأ، بعدما أسهم في الإطباق على دول ومنظومات دول ودوائر قرار إقليمية ودولية، وهو يستمرّ بوقاحة لا وصف لها بالإطباق على الأجواء اللبنانية ومحاصرتنا في البحر والجو.
اللبنانيون أوّل شعب في التاريخ يناقشون مقاومتهم في مستقبلها وجدواها وسلاحها ومالها، والبعض قد يتآمر عليها ويُعرض عنها ويستكثر عليها نصرها وإنجازاتها وشفافيتها وتضحيات أهلها التي لا تصدّق. لم نشهد مثل هذا في مقاومات الجزائر أو فييتنام أو فرنسا أو كوريا أو كوبا، ولن نشهده حتماً في أية مقاومة أخرى في التواريخ الحديثة. والسبب في ذلك لمن يغطس في تاريخهم، هو انقسامهم التاريخي الدائم في الشكل والمضمون وأساليب عيشهم وتطلعاتهم وتكاذبهم وعنادهم وتشاوفهم وتناقضاتهم وتبعياتهم وتقديم مصالحهم على مصالح وطنهم وازدواجيات التصريحات والمواقف لدى معظم سياسييهم. حكومات غبرت وبرلمانات تبدّلت، ووثائق وأوراق كثيرة لوفاقهم وضعت في الداخل والخارج لوطنهم، ورؤساء اغتيلوا أو ماتوا وعائلات كثيرة سياسية انطفأت واندثرت، وملايين منهم هاجروا نهائياً إلى بلاد الله الواسعة وحملوا انقساماتهم معهم إلى درجة القرف، وألوف قتلوا وأصابتهم إعاقات دائمة، ومئات الألوف جرحوا في أجسادهم وكراماتهم وعائلاتهم وغلبهم العوز والفقر ولم يتغيّر شيء! بقوا مثل حبّة لا يخرج من نصفها نبتة إن طمرت في الأرض، ولا حيلة في ضمّ النصفين بشكل متكامل، فهم منقسمون واعتادوا الانقسام والفصام.
نعم. اللبنانيون منقسمون في كلّ أمر: بين غرب وشرق وبين سوريا واسرائيل، ومنقسمون في المسائل الدستورية وقوانين الانتخابات النيابية وغيرها من المسائل البسيطة والأنظمة والقوانين. منقسمون بين مسيحي ومسلم طوراً وبين المذاهب في كلّ طائفة أطواراً أخرى، وانقساماتهم مهندسة في حدائق الغرب. وببساطة كليّة: لأنهم منقسمون مذ كانوا فإنهم اعتادوا الرقص فوق حدّ السيف ومدّ مناقيرهم الطريّة عند تقاتل النسور، وكلّما تجذّروا في وطنهم ترسّخوا في انقساماتهم، ويستحيل في الوقت نفسه قسمتهم جغرافياً أو بشرياً أو طائفياً أو مذهبياً أو اقتصادياً أو فكرياً، ولهذا سيبقى لبنان وطناً قائماً في قلب النار متعباً للأمم ومسليّاً لضجر رؤسائها!
سيبقون هكذا لعبةً متنقلةً بين التعريب والتدويل فالتعريب، حتّى بعد أن يتحقق سطر واحد يأتي دائماً لمن يقرأ في آخر نصوص قرارات الأمم المتحدة كما في تقارير أمينها العام وفيه: «أتطلّع إلى تحقيق سلام شامل وعادل ونهائي في الشرق الأوسط»،إلاّ إذا اكتشفوا لون بشرتهم في المرايا وعرفوا الوجهة الصحيحة والاختيار.
* كاتب وباحث سياسي