علاء اللامي *
بمناسبة مؤتمر بشأن مستقبل مسيحيّي الشرق، عُقد في باريس منذ بضعة أسابيع، أدلى وزير الخارجية الفرنسية السيد برنار كوشنير بتصريحات عن هجرة المسيحيين العراقيين تتسم بأنها مباشرة وغير مسبوقة. وتصلح المناسبة لتسليط الضوء على هذه المشكلة المحزنة، التي وإن لم تكن واحدة من ثمار عهد الاحتلال المرير، ولكنها ـــــ لا ريب ــــــ تفاقمت ونضجت معه إلى درجة أضحت من أخطر الجروح الغائرة التي لحقت بالنسيج المجتمعي العراقي، وبتقاليد وسمات التعددية الطائفية والقومية العراقية العريقة.
قد يكون للسيد كوشنير أسبابه الخاصة التي يمكن أن تسهّل عليه عملية تسويق استقبال مئات أو آلاف العراقيين الكلدان والآشوريين من جانب دولته، كما أخبر مستمعيه في الندوة. لكنه ليس محقاً، ولا دقيقاً في قوله إن سبب هجرة هؤلاء هو الاضطهاد الديني اليومي، واعتبارهم مواطنين من الدرجة الثانية، وانسداد الآفاق أمامهم. وهو لا يعدو كونه مكرراً لما هو سائد وصحيح حين يقول إن المسيحيين العراقيين والشرقيين عموماً هم من أقدم سكان هذه البلدان، وإنهم جزء من الثقافة والحضارة العربية الإسلامية. فالشرق ـــــ ونتحدث عن الشرق الإسلامي أو ما يعرف ببلدان الحضارة الإسلامية عموماً ــــــ لم يعرف كالغرب ظاهرة تقسيم البشر إلى درجات وأنواع على أسس العنصر أو الدين أو اللون أو المُلكية، وما «ديموقراطية أثينا» القديمة و«مجلس اللوردات البريطاني» المعاصر إلا مثالان على تجليات هذا التقسيم. وأمّا التجاوزات التي حدثت فعلاً، فهي لا تخرج عن إطار الاستثناء المتعلق بحكام متعصبين معدودين كالمتوكل العباسي والحاكم بأمر الله الفاطمي.
كما أن الاضطهاد الذي تحدث عنه السيد كوشنير ليس طائفياً عمودياً بين «المسلمين المتعصبين» و«المسيحيين المسالمين»، كما يحاول الإعلام المؤدلَج أن يرسم ويرسِّخ. فمن يُعادِ المسيحيين العراقيين ويلحق بهم الضرر في منطقة «الدورة» على سبيل المثال هو ذاته من يعادي ويؤذي، وربما بدرجة أشد قسوة، المسلمين الشيعة والسنة المختلفين معه في المنطقة ذاتها، ونعني به التيار المسلّح التكفيري الوافد وتفرّعاته المحلية. كما أن نظرة واحدة إلى ساحات استقبال اللاجئين والفارّين من الاقتتال الطائفي في العراق، كسوريا والأردن وتركيا، التي تزدحم بخليط عراقي يكاد يكون صورة طبق الأصل للصورة التقليدية للنسيج المجتمعي العراقي الذي كان سائداً، أقول إنّ نظرة واحدة كهذه تعطينا مصداقاً آخر على صحة القول باستثنائية هذه الظاهرة وعلى خطل ما يذهب إليه السيد كوشنير من تعاميم.
من ناحية أخرى، لا بدّ من تسجيل أنّ هجرة المسيحيين العراقيين، بمختلف طوائفهم وأقلياتهم القومية، لم تبدأ مع الاحتلال الأجنبي بل في الثمانينات من القرن الماضي، وحتى قبل ذلك، ولكن بشكل محدود. إلّا أنّها تكثفت وتحولت إلى ظاهرة في أواسط التسعينات، لسببين من بين أسباب عديدة وهما تصاعد حدة الحصار الاقتصادي الغربي والعربي على العراق بعد حرب الكويت أولاً، واستشراء محاولات نظام صدام حسين لفرض التعريب القسري على الآشوريين والكلدان وغيرهم من أبناء الأقليات، في المقام
الثاني.
مع الاحتلال الأجنبي للعراق، وصعود ظاهرة الاستقطاب والاقتتال الطائفي، تكثّفت هجرة أبناء الأقليات القومية والدينية الطائفية إلى خارج العراق، لكنها لم تكن هجرة أقلياتية أو إثنية الطابع، بل كان هروباً جماعياً شاركت فيه جماهير واسعة من أبناء الأغلبية العربية ومن الطائفتين المسلمتين الكبيرتين السنية والشيعية، على الرغم من عدم وجود تراث حقيقي من التقاتل والتناحر الطائفي الديني على امتداد التاريخ العراقي... ومع كل ما سبق، فلا يمكن نكران الاستهداف المدان الذي تعرّض له مواطنون عراقيون لأسباب تتعلق بديانتهم أو أصولهم القومية كالمسيحيين، من آشوريين وكلدان، من جانب منظمات تكفيرية ذات نزوع دموي هستيري كتنظيم «القاعدة» والمنظمات الحليفة
له.
واليوم، فلا يمكن البحث عن أيّ حلّ لهذه المشكلة، يضمن وقف النزف السكّاني لأبناء الأقلّيات ولأبناء الأغلبية العربية، والمحافظة على النسيج المجتمعي التعدّدي، خارج نطاق التصدّي لحالة الاحتلال الأجنبي وتداعياته. وهذا ما ينقص السيد كوشنير ودموعه التمساحية عن مسيحيي العراق والشرق عموماً. إن إنهاء الاحتلال والإفرازات السياسية التي أوجدها، ومنها نظام حكم المحاصصة الطائفية، واستبداله بنظام ديموقراطي مدني علماني في عراق حر ومستقل حقيقة، هو البوابة الوحيدة، الممكنة والفعالة، لحلّ جذري للمسألة المسيحية ولكل مسائل الأقليات. كما أن قيام منظمات المجتمع المدني المستقلة وغير الحكومية بدور على الأرض في ملاحقة انتهاكات الحقوق والتهديدات والترويع، وفضحها، سيسهم بالتأكيد في إبراز روح التضامن العابرة للطوائف وفي التخفيف من وطأة معاناة ضحايا التهجير القسري من المسيحيين العراقيين وغيرهم. مهمة أخرى ضرورية يمكن هذه المنظمات المدنية القيام بها، وهي التصدي للمنظمات الأجنبية المقنعة بتسميات وشعارات «إنسانوية»، التي تقوم بدور ضارٍ في تسريع وتنشيط حركة هجرة أبناء الأقليات إلى خارج العراق، وإلى الولايات المتحدة وبعض الدول الأوربية خصوصاً، بحجج الدفاع عنهم وإنقاذهم مما هم فيه، فيما تختفي أجندات خاصة غير نزيهة خلف ذلك كله.
إن تفاقم هجرة الكلدان والآشوريين من العراق ينسجم ويتساوق مع الأهداف المعلنة للمحتلين الذين سعوا بكل طاقتهم إلى إحلال نظام سياسي يحقق لهم ترسيخ التعددية الطائفية المسيطر عليها عن طريق المحاصصة الانتخابية، والتوزيع الطائفي للمناصب القيادية، بحراسة دستور طائفي وتفتيتي يناقض في الصميم الطبيعة المجتمعية العراقية.
إن هذه الطبيعة المجتمعية، العريقة والموروثة، يُراد لها أن تلفظ أنفاسها الأخيرة الآن، لينفتح المجال رحباً أمام تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات، شيعية وسنية وكردية، ضمن اتحاد فضفاض، وحذف أيّ نتوءات وكيانات أخرى تعيق بلوغ هذا الهدف المشؤوم...
* صحافي عراقي