سعد الله مزرعاني *
يحاول البعض التقليل من أهمية أنّ إسرائيل، مجتمعاً وسلطة، قد أثبتت قدرة غير عادية على التعامل مع الأزمة الناجمة عن هزيمتها في لبنان صيف عام 2006. ويغالي البعض الآخر، إلى درجة نفي أي حيوية يتمتع بها النظام الصهيوني. هذا النفي ينطلق، غالباً، بذريعة عدم جواز كيل المدائح للعدو. وهو يكاد يساوي الكارثة عندما يتعلق الأمر بصياغة الدروس التي ينبغي استخلاصها من التجارب العربية، سواء كانت خائبة، كما كان يحصل غالباً، أو كانت صائبة، كما هو الأمر في محصّلات حرب 2006 الإسرائيلية ضدّ لبنان وشعبه ومقاومته.
ولقد تناولنا سابقاً الوجهة التي اعتمدتها الأكثرية النيابية والسلطوية في لبنان، حيال نتائج حرب تموز لعام 2006. والعنوانان الخطيران الأساسيان في تلك الوجهة هما أولاً، إدراج الانتصار الذي تحقّق على إسرائيل في منظومة الصراعات التقليدية اللبنانية، وذلك عنى ولا يزال يعني (بنسبة تتفاقم باطِّراد) التعامل مع هزيمة إسرائيل بوصفها أيضاً هزيمة لفريق 14 آذار! وثانياً، اندراج فريق 14 آذار في التحالف الأميركي في المنطقة، بما رتب ويرتب على لبنان ارتباطات وأثماناً لا طاقة له عليها، ولا مصلحة له فيها.
يمكن القول، دون تردّد، ورغم كلّ أشكال التبرير التي يمكن أن تساق في هذا الصدد (ما كان منها موضوعياً أو غير موضوعي وغير منطقي ومقبول)، بأن فريق الأكثرية النيابية، قد اتخذ من المواقف حيال نتائج الحرب، ما يتعارض مع المصلحة اللبنانية والمصلحة العربية. والسؤال المباشر الآن: ماذا عن فريق المعارضة؟ ماذا عن «حزب الله» تحديداً؟ ما هي الخلاصات والدروس التي استُخرجت؟ وما هي السياسات التي اعتمدت، أو تلك التي يجب اعتمادها، للتعامل مع المتوقّع من السياسات الإسرائيلية للمرحلة الراهنة وللمرحلة القادمة، غير البعيدة، بالتأكيد؟
بدءاً، لا بدّ من التأكيد أن قادة إسرائيل، الحاليّين أو من سيخلفهم، يعدّون لحرب جديدة. هي حرب شبه حتميّة، «لمواجهة التحديات الأمنية المركّبة التي تنتصب أمام الجيش وأمام دولة إسرائيل». هذا النص الصريح والمباشر الذي عُرض أخيراً، خلال اللقاء الموسع للمراتب القيادية في الجيش ووزارة الدفاع الإسرائيلية، هو واحد من عشرات النصوص والتصريحات والاستعدادات التي تتوالى في إسرائيل بشأن التحضير لحرب جديدة.
وقبل ذلك، نلاحظ أن لجنة فينوغراد وتقريرها لم يسائلا الحكومة والجيش الإسرائيليين في سبب قرار تحويل الردّ على خطف جنديين (عملية محدودة) إلى حرب شاملة، وفي صحة هذا القرار، قبل جدواه وإخفاقاته! وما يدور في غزة الآن من لجوء مفرط إلى استخدام القوة ومعها القتل والاغتيال والتدمير، قبل مؤتمر «الحوار» في أنابوليس وبعده، وكذلك استمرار التحرّش بلبنان بأشكال مختلفة (طلعات جوية، إطلاق نار...)، وصولاً إلى اغتيال القائد في المقاومة الإسلامية الشهيد عماد مغنية في قلب العاصمة السورية... كل ذلك يدلّ على النزعة العدوانية التي تحدّد السلوك وردود الفعل الإسرائيلية، ودائماً بتشجيع استثنائي من الإدارة الأميركية.
ذلك يعني ببساطة، أنه فيما ينبغي توقُّع أن تشن إسرائيل حرباً جديدة على لبنان، ينبغي أيضاً التحسّب لهذه الحرب والإعداد لها على أوسع نطاق، هذا بمعزل عن التوقيت. فالتوقيت يحين بالضبط عندما تقرّر ذلك إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، في موعد يقترب أو يبتعد، وفق مجموعة معطيات يجب توافرها أو يجب أخذها في الاعتبار.
ونريد أن نفترض بدايةً أن قيادة حزب الله، المعنية الأولى الأساسية بهذا الأمر، على دراية كاملة بموجبات قيام الحزب بواجبه الدفاعي في هذا الصدد. وتشير معطيات مستقى معظمها من العدو نفسه، فضلاً عما أعلنه الحزب خصوصاً، بلسان أمينه العام السيد حسن نصر الله، أن استعدادات الحزب قائمة وجاهزة على المستوى العسكري والميداني. يحصل ذلك رغم التبدلات التي أدخلها عامل وجود 15 ألف جندي دولي ينتشرون في الجنوب اللبناني، جنوبي الليطاني. وكذلك انتشار قوات الجيش اللبناني في تلك المنطقة، وكلا الانتشارين، بموجب القرار الدولي الرقم 1701.
وفي امتداد ذلك، يجب إضافة مجموعة عوامل إيجابية ذات بعد استراتيجي في تحالفات المقاومة وعناصر إسنادها إقليمياً، وحتى محليّاً. إلا أن هذا الأمر المهم جداً، هو رغم ذلك، قد يصبح غير كاف لتأمين النصر المؤزر على العدوان، إذا ما صادف خللاً كبيراً في الساحة الداخلية
اللبنانية.
ما هو الخلل الذي إليه نشير؟ إنه نفسه الذي يجري التحذير منه يومياً، عبر مواقف وتصريحات، وعبر احتدام الصراع الداخلي اللبناني، وعبر تركيز فريق الأكثرية النيابية على أولوية التناقض مع «المقاومة الإسلامية» ودورها وسلاحها وتحالفاتها.
الحدّ الأقصى لهذا الصراع، هو جرّ «المقاومة الإسلامية» إلى احتراب داخلي، يشتّت طاقاتها ويصرفها عن أولوياتها (قتال العدوّ الإسرائيلي)، وينال من قدرتها المعنوية والتعبوية. ويبلغ مثل هذا الخطر ذروته إذا كان هذا الأمر منسّقاً سلفاً مع العدو الإسرائيلي ومع الإدارة الأميركية، أو إذا استغله العدو بطريقة من الطرق لن يعدم الوسيلة المناسبة لإيجادها. ومعروف في هذا الصدد أن فريق السلطة (حكومة السنيورة) لن يكون بعيداً عن مثل هذا المناخ الخطير.
لقد بذل حزب الله الكثير، في سبيل دفع هذا الاحتمال. أعلن بلسان مسؤوليه أنه لن يستدرج إلى حرب داخلية، ولن يستخدم سلاحه إلا ضد العدو الصهيوني. وهو أكّد ذلك في الممارسة، في مناسبات مختلفة. ورغم ذلك، فالنيات الحسنة لا تكفي في مثل هذه الحالة. فما هو المطلوب إذاً؟
تتعدّد الأجوبة عن كيفيّة التعامل مع هذا الموضوع. بعض هذه الأجوبة سيلجأ بالضرورة إلى التبسيط، كمثل القول: ماذا تفعل إذا قرّر الخصم المبادرة إلى الهجوم، هل تستسلم؟ إن الاكتفاء بمثل هذا الجواب أو ما يشابهه، إنما يسلّم سلفاً بالعجز عن اشتقاق قواعد أخرى لمسار الصراعات، أو على الأقل، بالعجز عن إجراء ما يلزم من أجل إحداث بعض التعديلات الأساسية على هذا المسار.
بداية نعتقد أن تداخل الصراعات المحلية والإقليمية مسألة أكبر من أن يقرّرها مزاج أو يتحكّم بها عنصر طارئ أو مؤقت. ورؤية وحدة الصراع، التي هي منطلق صحيح تماماً، تستدعي، لأنها كذلك، ما يتجاوز محاولات الفصل والتحييد. والمنطلق في ذلك سيكون بالضرورة، النظر إلى الوضع اللبناني وفق مقاربة دينامية، تتعدّى فعلياً ما كان قائماً في مرحلة الإدارة السورية للبنان، وما استمر تقريباً قائماً على المرتكزات نفسها بعد الانسحاب السوري في أواخر نيسان من عام 2005. وينجم عن ذلك، بالتأكيد، الالتفات إلى ضرورات تطوّر الوضع في لبنان، وحاجات التغيير فيه، خدمة لمصالح شعبه، وبناء دولته ومؤسّساته، على أسس السيادة والوحدة والعروبة والديموقراطية والتنمية.
ويتّصل كل ذلك، أي مراجعة نظام العلاقات اللبنانية ـــــ اللبنانية في صيغتها الطائفية المأزومة، بمراجعة موازية ومتكاملة ومتأنية ومسؤولة للعلاقات اللبنانية ـــــ السورية التي يشوبها هي الأخرى الكثير من التعقيدات والسلبيات والالتباسات.
ويحتاج هذان العنوانان إلى كثير من البحث في ضوء التجربة، وفي ضوء المهمات المعقدة الماثلة، للارتقاء إلى مستوى بلورة مشروع تحرّري وطني لبناني من جهة، ومشروع تحرري قومي عربي دفاعي ضدّ الغزوة الأميركية الصهيونية، من جهة أخرى.
هذان المشروعان المتكاملان، يستدعيان المزيد من المتابعة لإبراز ضرورتهما، وتحديد أهدافهما، وبلورة صيغهما. وكل ذلك شأن لا يقبل التردّد ولا المراوحة ولا التأجيل.
* كاتب وسياسي لبناني