فادي عبّود *
قرّرت في عطلة نهاية الأسبوع قراءة نصوص المجمع البطريركي الماروني بصفتي رئيس اللجنة الاقتصادية في الرابطة المارونية ومن واجبي فهم توجهات الكنيسة المارونية الاقتصادية التي تحدّد خطة العمل والتوجهات العامة للكنيسة المارونية وبالتحديد النص الرقم 21 تحت عنوان «الكنيسة المارونيّة والقضايا الاقتصاديّة» ضمن ملفّ الكنيسة المارونيّة وعالم اليوم.
1 ـــــ إنّ سياسات الإعمار التي بدئ بتطبيقها بعد الحرب، أغفلت ضرورة إعادة إحياء القدرات الإنتاجيّة في البلاد، في الميدانين الصناعي والزراعي، ومساعدة اللبنانيّين في توفير قدرةٍ تنافسيّة لمنتوجاتهم، خصوصاً مع التطورات العلميّة، الصناعيّة والزراعيّة، السريعة التي حصلت ما بين 1975 و1990، في العالمين العربيّ والغربيّ، وانتشار حركة العولمة، ممّا فرض على المجتمعات جهوداً جبّارة في الميدان الاقتصادي.
فقد ركّزت سياسات الإعمار على مشاريع البنية التحتيّة العالية الكلفة والمركّزة، مجدداً، في بيروت وجبل لبنان، وعلى فتح باب التعويض للمهجّرين، بمعايير عشوائيّة الطابع، استفادت منها الفئات المنتمية بالولاء إلى بعض زعماء الميليشيات الذين انخرطوا بقوّة في الحياة السياسيّة، كذلك أسّست هذه الحكومة سياسةً نقديّةً مكلفة، اعتمدت الفوائد العالية للغاية، وقد كان الهدف المعلن من الدولة، لهذه السياسة، دعم سعر صرف الليرة اللبنانيّة، في إطار سياسة تثبيتيّة للنقد. أدّت هذه السياسة إلى توفير أرباح طائلة للقطاع المصرفيّ الذي أصبح يحمل القسم الأكبر من الدين العام، مع الإشارة إلى ما كان لبعض رجال الدولة من مصالح في هذا القطاع.
2ـــ ضاعفت الكنيسة المارونيّة، في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ الوطن جهودها، في ميدان العمل الاجتماعيّ، لإيقاظ الوعي، وسط أزمة فقدان الأخلاق الاقتصاديّة وقيم العمل الجادّ وحسِّ الإنتاجيّة، بخاصّة لدى الفاعليّات السياسيّة من كلّ الطوائف.
3ـــــ يتمتّع لبنان بمميزاتٍ طبيعيّةٍ هامّة (جمال الطبيعة، أهميّة الموقع الجغرافيّ، البحر الأبيض المتوسط، التربة الخصبة، وفرة المياه العذبة)، بالإضافة إلى ما يتوافر لديه من قدراتٍ بشريّةٍ كبيرة بفضل انفتاح أبنائه على الثقافة والعلم، منذ قرون، وتشييد المؤسّسات التربويّة الراقية فيه. وقد قامت الكنيسة المارونيّة بدور متميّز في هذا المجال، إذ كانت رائدة في إدخال التربية والعلوم الحديثة إليه، عبر مدارسها ومطابعها وجامعاتها. غير أنّ هذه الإيجابيات لا يستفيد منها لبنان كفاية، لأننا نتعدّى على مواردنا الطبيعيّة عشوائيّاً: الكسّارات، التعدّيات على الشاطئ البحريّ والشواطئ النهريّة، استخدام الرمول، تبذير المياه وتلوثها، عدم معالجة النفايات بطريقة جديّة. وإذ تقوم المؤسّسات التربويّة بجهدٍ مشكور، لتأهيل القدرات البشريّة الشابّة، تُقْدِم فئات واسعة من الشباب على هجرة الوطن، لفقدان فرص العمل التي تليق بقدراتهم وطموحاتهم المهنيّة.
4ـــــ الهجرة وفرص العمل: ويرى الكثيرون أنّ الهجرة ظاهرة حتميّة، نظراً إلى ضيق رقعة البلاد وعدم توافر المواد الأوليّة فيها. وهذه، طبعاً، نظرة جزئيّة. إذ يجب، أيضاً، أن يُنظر إلى الهجرة على أنّها مكلفة للمجتمع، فمردود الأعباء الماليّة التي أُنفقت لتربية الشباب المهاجر وتعليمه، لم يأت لمصلحة لبنان، بل إنّ دول الإغتراب هي المستفيدة من هجرة الأدمغة إليها. ولو بقيت هذه الأدمغة والكفايات في لبنان، وعملت فيه بقدراتها، لحصَّل المجتمع اللبنانيّ مردوداً يفوق ما تبلغه الأموال التي يحوّلها اللبنانيون من المنتشرين في المهجر، إلى ذويهم في الوطن.
5ـــــ لا يخفى على أحدٍ أنّ العديد من البلدان الصغيرة التي تخطّت محدوديّة رقعتها وفراغها من المواد الأوليّة، وأقامت اقتصاداً إنتاجيّاً مكثّفاً، باتت من المراكز التكنولوجيّة الصناعيّة المرموقة في الاقتصاد الدوليّ. نذكر منها، على سبيل المثال، شبه جزيرة سنغافورة، الدانمارك، إيرلندا.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى تايوان، وهي جزيرة صغيرة، كانت في عداد البلاد الأكثر فقراً، ومجتمعها كان ريفيّاً صرفاً، وقد أصبحت، اليوم، من بين العمالقة في صناعة الإلكترونيّات في العالم. هذه الأمثلة تدلّ دلالةً واضحة على أنّه ليس هناك من حتميّة في ظاهرة الهجرة، وأنّ ضيق مساحة البلد، وفراغه من المواد الأوليّة، أو المنجمية، لا يؤدِّي بالضرورة إلى قيام أبنائه بهجرةٍ متواصلة. لذلك، يمكن لبنان أن يقلب الاتجاهات السلبيّة التي يسلكها، اقتصاديّاً واجتماعيّاً، ليؤسّس نهضةً إنتاجيّةً شاملة، تعتمد على مهارات أبنائه وقدراتهم الخلاّقة.
ونحن نرى هذه القدرات تزدهر، خارج لبنان، على نحوٍ يثير إعجاب العالم، لكنّها تبقى مكبوتة في لبنان، في غياب الجوّ الإنتاجيّ الجدّي الذي نفتقده، بخاصّة، منذ نهاية الحرب. وبطبيعة الحال، إنّه في حال حصول قناعةٍ لدى اللبنانيّين، بضرورة الخروج من الوضع الحاليّ، فإنّ ذلك سيتطلب تحقيق إصلاحاتٍ إضافيّة.
6ـــــ التعاون المتواصل بين المؤسّسات التربويّة والقطاع الخاص لجعل لبنان مركز تفوّق إنتاجيّ.
7ـــــ توفير الحماية للنشاطات الإنتاجيّة في إطار النهضة المرجوّة، يجب العمل على حماية النشاطات الإنتاجيّة من أيّ مضاربة غير شرعيّة مصدرها السلع والخدمات الأجنبيّة، ولا سيّما في المجال الزراعيّ والصناعيّ، حيث وقّعت الدولة، في السنين العشر الأخيرة، اتفاقات لتحرير المبادلات التجاريّة من القيود، مع دول الجوار والاتحاد الأوروبيّ، بدون أن تأخذ في الحسبان ما آلت إليه القطاعات الإنتاجيّة من تردٍّ، وبدون أن تقف الدولة اللبنانيّة موقفاً صلباً عندما لا تطبّق الدول الأخرى تطبيقاً سليماً مضامين الاتفاقيّات التجاريّة التي وقّعناها معها، فتصبح الأخيرة الجهة المستفيدة، حصريّاً، وتفلس الشركات اللبنانيّة المنتجة، فنفقد المزيد من فرص العمل.
8 ـــــ يجب أن تصبح علاقة الدولة بالقطاع الخاصّ علاقةً تعاون وتكامل تقوم على التشاور المستمرّ لبلوغ النهضة الإنتاجيّة المرجوّة، بدلاً من أن يسعى بعض أفراد هذا القطاع ومؤسّساته، لأن يحصل من الدولة على امتيازاتٍ خاصّة، ومواقع احتكاريّة، توفر الأرباح السهلة والضخمة على حساب المستهلك اللبنانيّ، وعلى حساب مبدأ المنافسة العادلة. وفي هذا المضمار، نشير إلى أنّ لبنان، بحجمه الصغير، لا يتحمّل تشابك المصالح الخاصّة والعامّة، مثلما يحصل منذ سنين، بتبوّء كبار رجال المال والأعمال مراكز سياسيّة هامّة في كلّ من السلطتين، التنفيذيّة والتشريعيّة. وإذا كان هذا الأمر غير محبَّذ، حتى في الاقتصادات الكبرى، مثل الولايات المتّحدة أو إيطاليا، فالحريّ ألا يحصل في نظام اقتصاديّ محدود، مثل اقتصاد لبنان، إذ ينتج منه، حتماً، تفشّي الفساد والرشوة والخلط المكلف بين مصالح السياسيّين الخاصّة والمصلحة العامّة.
9ـــــ ويرى المجمع ضرورة العمل لكي تكون ممتلكات الكنيسة وقدراتها، في الميدان الاقتصاديّ والتربويّ، وسيلةً أساسيّة لتأمين استمراريّة تأصُّل المسيحيّين في تراب أجدادهم، ومساعدتهم على عدم تركهم حيازاتهم الزراعيّة في الأرياف، أو بيع عقاراتهم في المدن، فاللبنانيّون ينتظرون من الكنيسة أن تعود إلى سابق دورها، بالحفاظ على مقوّمات الحياة الريفيّة والعيش الكريم، في جبال لبنان، والإسهام عبر إيجاد فرص العمل في المدن مثلما في الريف، في النهضة الإنتاجيّة المنشودة.
10ـــــ توصيات النصّ وآليات العمل:
ـــــ سياسة دعم النشاط الإنتاجيّ:
يدعو المجمع الدولة ومؤسّسات التمويل اللبنانيّة إلى العمل على سياسة دعم تشمل كلّ نشاط إنتاجي جديد خارج القطاعات الخدماتيّة والمشاريع العقاريّة. كذلك يدعوها إلى توفير القروض الميسرة للمؤسّسات الصغيرة والمتوسّطة، وتأمين الأسواق لتصريف الإنتاج.
ـــــ إقامة صناديق استثماريّة مناطقيّة للإسهام في رأس مال منشآت إنتاجيّة جديدة وتقديم القروض بشروط معقولة إلى المبادرين بهذه النشاطات.
ـــــ إقامة مناطق صناعيّة وخدماتيّة في كلّ منطقة، وتوفير كلّ التسهيلات الإنتاجيّة والإعفاءات الجزئيّة والمؤقتة، مثل رسوم الضمان الاجتماعيّ، وضريبة الدخل، وضريبة الطابع.
ـــــ العمل على حماية النشاطات الإنتاجيّة من
أيّة مضاربة غير شرعيّة مصدرها السلع والخدمات الأجنبيّة، ولا سيّما في المجالين الزراعيّ والصناعيّ.
نسأل هل تمّ تنفيذ كلمة واحدة من التوصيات أعلاه؟ نسأل المؤمنين بما ورد في هذه التوصيات ومن يمثل الطائفة في الحكومة إذا كانوا قرأوا هذه التوصيات الصادرة عن المجمع وكيف عملوا مع هذه الحكومة على تنفيذ هذه التوصيات. قد يكون رجال السياسة يجتهدون في تفسير مواقف بكركي كل حسب مصالحه ومآربه السياسية الخاصة. لكن توجهات الكنيسة الاقتصادية واضحة وضوح الشمس ومن الصعب تحويرها أو الاجتهاد حولها.
كذلك نسأل سيدنا وأبانا البطريرك أن يُذكّر أصحاب الشأن بتوصيات المجمع لأنّ المراقب الاقتصادي يرى أنّ السياسة المعتمَدة حالياً مختلفة جذرياً عن التوصيات الواردة أعلاه.
عند كل محاولة لإثارة المواضيع الاقتصادية، نُتَّهم بعدم الواقعية لأن الشأن السياسي هو الأهم كأن الامور الاقتصادية اليوم لا قيمة لها، لكننا نرى الحكومة ناشطة جداً باتجاه معاكس تماماً لهذه التوصيات ونرى الهجرة تتزايد يوماً بعد يوم ونرى القطاعات الإنتاجية سائرة نحو الزوال ونرى أن من واجب المدافعين عن رأي بكركي أن يدافعوا عن رأي المجمع البطريركي الماروني في الاقتصاد أيضاً.
* رئيس جمعيّة الصناعيّين اللبنانيّين