مصطفى بسيوني *
مع تبدّل الحكّام في مصر، تبدّل في الموقف من القضية الفلسطينية والصراع العربي الصهيوني. وإذ يبدو ذلك معتاداً في الدول التي يهيمن فيها حكم الفرد، إلا أن التحوّل في الموقف المصري الرسمي من القضية الفلسطينية والصراع العربي الصهيوني كان دائماً جزءاً من تحوّل أكبر يقوم به النظام الحاكم في مصر على جميع المستويات. فقد كانت القضية الفلسطينية إحدى مفردات السياسة المصرية، بل ومن أكثرها تعبيراً عن التوجّهات العامة للنظام، ليس فقط على مستوى السياسة الخارجية، بل أيضاً على مستوى السياسة الداخلية. وإذا ألقينا نظرة سريعة على مواقف الأنظمة المتتالية في مصر من القضية الفلسطينية فسنجد أنها ارتبطت في كل مرة بالمشروع العام لكل نظام.
عبد الناصر الذي قدّم نفسه كنظام تحرّر وطني معاد للاستعمار وكقيادة قومية للمنطقة، كان يحتاج إلى دعم وتأييد حركات التحرر الوطني وحركات المقاومة، فكان من الطبيعي أن يبني معها أقوى جسور ممكنة، وأن يعدّها في الكثير من الأحيان امتداداً للناصرية. هذا الارتباط بحركات التحرر الوطني كان من شأنه أن يستعدي عليه القوى الاستعمارية التقليدية، إنكلترا وفرنسا ولاحقاً أميركا، التي اعتمدت عليها الدولة الصهيونية في وجودها واستمرارها. هذا العداء الغربي للمشروع الناصري حرم عبد الناصر من الدعم الغربي للمشروع التنموي الذي هدف إليه، والذي ظهر عند فشل المفاوضات مع البنك الدولي، التي كانت تهدف لتمويل بناء السد العالي. إذ رأى عبد الناصر شروط البنك للتمويل ساعتها تدخلاً استعمارياً، وردّ عليها بتأميم قناة السويس.
مشروع التنمية الناصري الذي هدف إلى الاعتماد على الذات، وإحلال التصنيع المحلي محل الواردات، وبناء صناعة وطنية، لم يكن أمامه بعدما عادته الدول الغربية وخذلته الرأسمالية المحلية ــــ اعتمد عبد الناصر بنسبة 60 في المئة على القطاع الخاص في خطة التنمية الأولى1955 / 1960 وفشلت الخطة ــــ سوى الاعتماد على نموذج الكتلة الشرقية في التنمية، القطاع العام والاقتصاد المخطّط. فقام بعملية تأميم واسعة وإصلاح زراعي ضمن نزع فوائض الإنتاج الزراعي الناتج من الفارق بين أسعار التوريد الجبرية من الريف، والأسعار العالمية، لتدعيم مشروع التصنيع، طبعاً مع تقديم الدعم للفلاحين في صورة مستلزمات زراعية، والأهم علاقات مستقرة بالأرض. العداء لإسرائيل والقوى الاستعمارية، ودعم المقاومة، والقطاع العام، والإصلاح الزراعي، ومجمل السياسة الاجتماعية في النظام الناصري، كانت كلها مفردات متكاملة في المشروع نفسه.
نظام السادات الذي خلف عبد الناصر وجد نفسه في البداية محاصراً بضغط شعبي وإقليمي لخوض حرب تحرير سيناء، مع عدم مرونة من القوى الاستعمارية تسمح له بحلول وسط. فقام باستكمال الإعداد للحرب وخوضها، لكن في صورة حرب تكتيكية لتحريك المفاوضات من أجل الانسحاب، ثم كانت إعلاناته المتتالية بأنه لا يستطيع مواجهة أميركا التي تقف خلف إسرائيل، وأنّ حرب «أكتوبر» آخر الحروب، إلى أن انتهى بزيارة الكنيست وإبرام اتفاق كامب دايفيد، الذي كان بمثابة انسحاب مصر من الصراع العربي الصهيوني. هذا الانسحاب الذي ظهرت معه دعاوى أن مصر قدمت الكثير للقضية الفلسطينية، جاء أيضاً مصاحباً لتحوّلات جذرية في السياسة الداخلية. فقد شهدت هذه الفترة (السبعينيات)، سياسة الانفتاح الاقتصادي وقوانين الاستثمار وتحرير التجارة. وفي مغامرة غير محسوبة من السادات، على طريقة الصدمات الكهربائية، قرّر إلغاء دعم السلع الأساسية في كانون الثاني 1977، ما كان يعني تضاعف جميع الأسعار دفعة واحدة، وهو ما أدّى فوراً إلى انتفاضة شعبية أجبرت السادات على التراجع الفوري. لقد حوّل نظام السادات مصر من طرف في الصراع العربي الصهيوني إلى طرف خارج الصراع، وتحول من الارتباط بدول الكتلة الشرقية إلى الارتباط بأميركا. وإلى جانب ذلك، أدخل السادات الانفتاح الاقتصادي والاستثمارات الأجنبية، في خطوة خلقت طبقة جديدة من المستفيدين من تلك السياسات من كبار التجار والمستثمرين. ولكن ظهور القطاع الخاص الجديد لم يتمكن ساعتها من إزاحة القطاع العام، واستمرت السياسات الجديدة إلى جانب دور الدولة في مزيج فريد من نوعه. وكما كان ترافُق موقف النظام الناصري من الصهيونية والاستعمار مع سياسات الاقتصاد المركزي المخطّط والتنمية المستقلة، يفسر واحدهما الآخر، فإن انسحاب السادات من الصراع ودورانه في فلك أميركا وسياسات الانفتاح الاقتصادي أيضاً يفسّر واحدهما الآخر.
وإذا كان الموقف الذي اتخذه السادات في مجمله موقفاً سلبياً، بسبب طبيعة المرحلة والإرث الناصري، بمعنى أنه اكتفى في القضية الفلسطينية بالانسحاب، وفي السياسة الداخلية بخلق قطاع خاص دون القضاء على القطاع العام، فإن نظام مبارك قد أدار الدفة في أقصى الاتجاه العكسي. لقد مثّل عام 1991 نقطة تحول فارقة في سياسة النظام المصري. وجاء التحوّل على المستويين الخارجي والداخلي دفعة واحدة.
فكما شهد هذا العام حرب «عاصفة الصحراء» من جانب قوات التحالف الدولية بقيادة أميركا على القوات العراقية، شهد أيضاً عاصفة أخرى على وادي النيل: عقد صفقة تقوم بموجبها مصر بدعم قوات التحالف بوجه العراق بإرسال قوات من شأنها توفير شرعية للحرب على دولة عربية، في مقابل إسقاط ديون مصر العسكرية، وتوقيع اتفاقية مع صندوق النقد الدولي، تجري بموجبها جدولة الديون المصرية وتطبيق وصفة صندوق النقد والبنك الدوليين.
في العام نفسه، كان النظام المصري يدعم الحرب الأميركية على العراق ويقمع بأقصى درجات العنف التظاهرات الطلابية المعارضة للحرب، ويدفع بكلّ قوّته في اتجاه عقد مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط، ويصدر قانون قطاع الأعمال الذي بموجبه يمكن خصخصة القطاع العام، ويُتبعه بقانون جديد للإيجارات الزراعية ينزع بموجبه الأرض من الفلاحين المستأجرين. تحوّل الموقف السلبي الذي انتهجه السادات باكتفائه بالانسحاب من الصراع العربي الصهيوني إلى دور إيجابي، ولكن عكسي، في عهد مبارك، بتدعيم المشروع الأميركي في المنطقة بما يحمله من خطط تزيد من ترسيخ الوجود الإسرائيلي في المنطقة وتضمن دمج إسرائيل كشريك متميز، مع تسكين الآلام الفلسطينية ببعض الحكم الذاتي.
وهكذا تطوّر الدور الذي يقوم به النظام المصري مع الوقت ليصبح تهدئة المقاومة الفلسطينية، ودفع التسوية بالشروط الأميركية الإسرائيلية، وضبط الحدود، ومنع تهريب السلاح للمقاومة. وتحول نظام مبارك من طرف خارج الصراع، كما فعل السادات، إلى طرف في الصراع. وعلى الصعيد الداخلي، تحوّل من بناء اقتصاد حرّ مواز للاقتصاد المركزي، كما كان يفعل السادات، إلى تطبيق سياسات السوق والليبرالية الجديدة على أوسع نطاق.
والذي لا يثير أي دهشة الآن، هو أن المستفيدين من سياسات الليبرالية الجديدة، والذين استطاعوا تكوين احتكارات صناعية وتجارية وخدماتية للحديد والإسمنت والمحمول والسياحة، هم أنفسهم طليعة المطبّعين مع إسرائيل. فقد أثبتت الأنظمة المتتالية أن الموقف من القضية الفلسطينية والسياسة الداخلية ليسا سوى وجهين لعملة واحدة. عندما عرضت نشرات الأخبار صور جريمة قتل الطفل محمد الدرة في أيلول2000، انطلقت التظاهرات في مصر من المدارس والجامعات وفي الشوارع والميادين، ولم يكن رد الفعل هذا ليكون أقوى لو كان محمد الدرة طفلاً مصرياً. وكانت بذلك تنقضي مرحلة طويلة نسبياً من الركود السياسي شهدتها مصر في التسعينيات، والذين خرجوا غاضبين لمشهد قتل الدرة كانوا في خروجهم هذا يحطّمون سنوات الركود والطوارئ، ليستكملوا بعد ذلك خروجهم ضدّ غزو العراق، ثم ضدّ التوريث، ولدعم القضاة في معركة الاستقلال، في حراك سياسي هو الأطول في مصر منذ عقود، ولا يبدو أنه على وشك الانتهاء. وهو ما يدل على أن القضية الفلسطينية والقضية المصرية قضية واحدة.
* صحافي مصري