محمد سيّد رصاص *
عندما سمع سكّان بغداد في 16كانون الثاني 1948 بتوقيع معاهدة بورتسماوث، بين رئيس وزرائهم والبريطانيّين، وما تضمّنته من دعوة القوات البريطانية إلى استخدام الأراضي العراقية ومرافقها في زمن الحرب بما فيها القواعد الجوية في الحبانية والشعيبة، قاموا بما يُسمّى بـ«وثبة كانون»، التي سيطرت فيها جماهير العاصمة على المدينة لعشرة أيام حتى سقوط الوزارة العراقية وهرب رئيس وزرائها إلى لندن: لم يحصل شيء قريب من هذا، أو شبيه به، لمّا وقّع أخيراً رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي مسودة اتفاق مع الرئيس بوش، ينظم عملية وجود القوات الأميركية في العراق لفترة طويلة قادمة عبر ست قواعد عسكرية تزنّر الأراضي العراقية، وترهن الاقتصاد العراقي وبتروله، للشركات الأميركية.
أيضاً، كانت مقاومة العراقيين للغزو الإنكليزي، الذي بدأ من الجنوب في عام 1917، أفضل وأقوى من مقاومة غزو 2003، وكانت مقاومتهم للاحتلال آنذاك أشدّ، وذات قاعدة وطنية عريضة، وهو شيء لا يمكن قوله عن المقاومة العراقية المسلّحة للاحتلال الأميركي في هذه الأيام. في المقابل، فقد شهدت الأعوام الخمسة الماضية، بعد الاحتلال الأميركي، بروز ظواهر مترافقة عربياً، لم يكن فيها أشخاص متعاونون مع الاحتلال، أو صنيعة له، مثل نوري المالكي أو أحمد الجلبي، في وضعية عدم المقبولية العربية التي تصل إلى حالة النبذ السياسي أو المعنوي، مثلما كانت عليه أوضاع الخديوي توفيق ونوري السعيد والشيخ تاج الدين الحسيني. بل على العكس من ذلك، فقد برزت ظواهر عربية في الأوساط السياسية والثقافية، تناغمت مع حالة المعارضة العراقية وحالة أغلب مثقفي بلاد الرافدين، التي نظَرت لما جرى في بغداد يوم 9 نيسان 2003، معتبرة سقوط عاصمة الرشيد «تحريراً» لا «احتلالاً»،حتى وصلت الوقاحة يومها بأحد السياسيين العراقيين، هو أحمد الجلبي، لأن يقوم باحتجاج علني مسهب في إحدى الفضائيات العربية الرئيسية على ما بادرت إليه الإدارة الأميركية في الشهر التالي في مجلس الأمن الدولي الذي أدارت له الظهر في فترة الغزو، بالموافقة على إصدار الأمم المتحدة لقرار ينظم الوجود الأميركي في العراق تحت عنوان الاحتلال.
هنا، إذا أراد المرء توخّي الدقة، فإن ذلك لم يقتصر على تأييد سياسي وفكري وثقافي للعملية الأميركية في العراق، شمل، للمفارقة، الكثير من الأسماء العربية اللامعة، بل وصلت الأمور إلى حدود انتظام تيار فكري ـــــ سياسي، في الساحة العربية المعارضة، على إيقاع الغزو الأميركي للعراق، هو تيار الليبرالية الجديدة الذي لم يكن موجوداً قبل تاريخ 9 نيسان 2003، والذي لا يستطيع أحد القول بأنه يقوم على حوامل اجتماعية محلية، أو إنه نبت منها عند لحظة ولادته، بل قام على ذلك العامل الخارجي الآتي عبر «البوّابة العراقيّة»، في ملاقاة ومراهنات على مستتبعات محلية يمكن أن يولدها في هذه العاصمة العربية أو تلك، ولو عبر سيناريوهات غير تلك التي جرت في بغداد، بعدما أظهرت واشنطن برنامجاً «ديموقراطياً» عبر مشروع «الشرق الأوسط الكبير» في 13شباط 2004، وضغطت من خلاله على الأنظمة العربية الموالية لها من أجل تنفيذ أجندات محدّدة (ثمّ وضعت ذلك على الرف منذ خريف 2006)، فيما تستمرّ في رفعه في وجه الأنظمة الإقليمية التي هي في حالة تصارع مع واشنطن.
إنّ ما جرى في بغداد والعديد من العواصم العربية، في المرحلة التي أعقبت 9 نيسان 2003، يطرح أسئلة كبرى: لماذا أصبح تعامل العرب مع ظاهرتي الغزو والاحتلال في وضعية مختلفة عن الأوضاع التي كانت في زمن ثورة العشرين العراقية، وعمّا جرى مع أحمد عرابي في عام 1882، ويوسف العظمة في ميسلون، وعمر المختار بين عامي1911و1932؟ هل بعض الحكّام العرب الحاليّين، هم في وضعية أكثر استقلالاً من تلك التي كانت للخديوي توفيق ونوري السعيد حتى لا يلاقوا ما لاقاه الاثنان من مجتمعاتهما؟ هل وصل بعض العرب إلى اعتبار الفرنسيين مخطئين عندما تعاملوا مع بطل معركة فردان عام 1916ضد الألمان، أي الماريشال بيتان الذي رأس النظام الموالي للألمان أثناء الاحتلال، تحت خيمة عبارة الجنرال ديغول: «إن الخيانة ليست وجهة نظر»، في الفترة اللاحقة لتحرير باريس في عام 1944؟
* كاتب سوري