ناهض حتر *
قبل نهاية هذا الشهر، سوف يزور الأردن فريق من الخبراء الروس لإجراء الدراسات الميدانية اللازمة، وتقديم تقرير فني للكرملين، حول مشروع إنشاء مفاعل نوويّ أردني لإنتاج الطاقة الكهربائية.
القرار السياسي بالشراكة بين البلدين في هذا المجال، اتُخذ فعلاً خلال زيارة الملك عبد الله الثاني إلى موسكو مطلع الأسبوع الماضي، بعدما استكمل الأردن أوراق اعتماده في النادي النووي، إذ حصل، أولاً، على موافقة أميركية وغربية، ثمّ على موافقة «الهيئة الدولية للطاقة الذرية» التي وجدت أنّ الأردن مؤهل من حيث الأطر القانونية والإدارية والفنية وتوفّر الكادرات المحلية، لامتلاك مفاعل نووي للأغراض السلميّة.
وقد فرض هذا المشروع نفسه كأولوية على أجندة الأردن جراء ارتفاع فاتورته النفطية إلى حدود تعطّل نمو الاقتصاد المحلّي، وتهدّد بإفقار البلد وتعريض استقراره العنيد للخطر. وخلال الأشهر الماضية، أجرت عمّان سلسلة اتصالات مع الأميركيّين والفرنسيّين للبحث في تنفيذ المشروع النووي. لكن سرعان ما تبيّن لها أن الشراكة مع الغرب في هذا المجال لا تخدم الاحتياجات الأردنية من ثلاث نواح أساسية هي: ارتفاع الكلفة، والحدود المفروضة على تقنيات المفاعل وحجمه، والمدى الزمني الطويل للتنفيذ.
وجدت عمان نفسها أكثر حرية في الحركة، مع بدء السنة الانتخابية الأميركية، والفتور في العلاقات مع إدارة جورج بوش بعد زيارته الأخيرة للمنطقة التي تجاهل فيها المحطّة الأردنية، وأعلن خطّته على المسار الفلسطيني بما يهدّد مصالح الأردن الوطنية (يهودية إسرائيل، شطب حق العودة، تغيير خريطة الضفة الغربية). وهكذا أصبحت طريق الشراكة النووية مع موسكو مفتوحة.
وكانت العلاقات الأردنية ـ الروسية قد تطوّرت بصورة ملموسة خلال الولاية الثانية للرئيس فلاديمير بوتين. وهو الذي رأى، بعينه الاستراتيجية، إمكانيات خصبة للاستثمارات والحضور السياسي في الأردن الذي يتميّز عن دول الخليج بوجود مجتمع حيوي وكادرات محلية، إدارية وعلمية وتقنية وعمّالية مؤهّلة، وعن الدول العربية الأخرى، بالاستقرار. وقد تمّ بالفعل التوقيع بين البلدين على سلسلة من المشاريع الصناعية والتنموية التي سترى النور عمّا قريب. لكن الدلالة الأبرز على الطابع الاستراتيجي الممكن بين البلدين لا تنتمي إلى الاقتصاد أو السياسة، بل إلى المقدّس؛ فقد اعتمدت موسكو الرواية الأردنية عن عمادة السيد المسيح (دون الروايتين، الإسرائيلية والفلسطينية) وقرّرت إنشاء أول كنيسة أرثوذكسية روسية في الشرق العربي، في حقبة ما بعد القيصرية، في المغطس، على الضفة الشرقية لنهر الأردن. وقد كرّس الموقع الرئيس بوتين نفسه، الذي رأيناه في التلفزة يغسل وجهه، خاشعاً، بالمياه المقدسة من النهر، فيما عُدّ ترويجاً رئاسياً لزيارة المغطس من قبل الحجّاج الروسبالنسبة للكرملين، يبدو مشروع «بوشهر» الأردني مغرياً لعدة أسباب أهمها: 1ـــــ عدم وجود توتّر في العلاقة بين الأردن والغرب، بل العكس، ما يجعل الشراكة النووية مع الأردن مريحة سياسياً، 2ـــــ توافر البنى التحتية والكادرات المحلية اللازمة للتعاون النووي، 3ـــــ توافر خامات اليورانيوم بصورة تجارية في الأردن، 4ـــــ استعداد عمان لإشراك الروس في الاستثمار المنجمي لليورانيوم، وفي ملكية المفاعل النووي وعائداته.
وبالنسبة إلى عمان، فإنّ التعاون مع الروس أقلّ كلفة وشروطاً، وأسرع تنفيذاً، وأكثر جدوى من الناحية الاقتصادية، بالإضافة إلى الاعتبارات السياسية. فالروس مقبولون شعبياً، ولا يحتاج وجودهم ونشاطهم إلى احتياطات أمنية، كما هي الحال بالنسبة إلى الغربيّين، كما أنه ليس لديهم اشتراطات سياسية تحدّ من حرية الدبلوماسية الأردنية.
بالعكس، فإنّ تطوّر العلاقة الاقتصادية بين عمّان وموسكو قد أوجد بالفعل إطاراً سياسياً مشتركاً مستقلاً، نسبياً، عن الارتباطات السياسية الأردنية مع الولايات المتحدة. فالبيان الثنائي الصادر عن مباحثات الملك عبد الله الثاني في موسكو أكّد رفض «الحلول الأحادية»، وسياسة العقوبات الجماعية، في إشارة واضحة إلى السياسات الأميركية والإسرائيلية. كما ألحّ البيان على التعاون الثنائي الحثيث لعقد مؤتمر موسكو للسلام في الشرق الأوسط. وهو اقتراح روسي لم يحظ، حتى الآن، بموافقة واشنطن وعواصم الاعتدال العربية على انعقاده أو على أجندته التي تتضمّن بحث المسار السوري واللبناني. ويرى البيت الأبيض وحلفاؤه السعوديّون في هذا المقترح سياقاً لفكّ العزلة المفروضة على سوريا. إلا أنّ عمّان لم تعد قادرة على المضي قدماً في تقديم الدعم للسياسة الأميركية ـــــ السعودية إزاء دمشق، بالنظر إلى المخاطر المحدقة بالكيان الأردني، الناجمة عن إمكان تورّط السلطة الفلسطينية في صفقة يرعاها العرب المعتدلون، وتقضي بشطب حقّ العودة، أو التنازل عن الوحدة الجغرافية ـــــ السياسية للضفة الغربية، ما يعني التوطين السياسي النهائي للاجئين الفلسطينيين في الأردن، بل ولجوء المزيد منهم إلى شرقي النهر هرباً من ضيق العيش في كانتونات السلطة، وأخيراً، الإبقاء على وجود قوات الاحتلال الإسرائيلي في غور الأردن. وهي مخاطر لا تعني السعودية ومصر، ولكنها تقضّ مضاجع الأردنيّين.
هكذا نرى أن التفاهم الأردني ـــــ الروسي لا ينفصل عن التحسّن الملحوظ في العلاقات بين عمّّان ودمشق. وهو ما تدركه الأطراف الإقليمية منذ وقت. فقد تبيّن، مثلاً، أن الزيارة الغامضة التي قام بها رئيس الوزراء اللبناني، فؤاد السنيورة، إلى الأردن، في كانون الثاني الماضي، كانت تهدف إلى توسيط الأردنيّين مع دمشق لحلّ بعض المشاكل الثنائية، ومن بينها إمداد لبنان بالكهرباء السوريّة.
وخلال زيارته إلى موسكو، بادر الملك عبد الله الثاني إلى تقديم دعم سياسي قوي للكرملين، حين التقى رئيس جمهورية الشيشان المقرب من موسكو، رمضان قاديروف، ودعاه إلى علاقات خاصة بين «البلدين الشقيقين». وهذا هو أول اعتراف من بلد عربي مسلم معتدل بالإدارة الموالية للروس في الشيشان. ومن الواضح أنّ الملك الأردني أعطى بذلك إشارة إلى استعداد الأردن للعب دور إيجابي في هذه الجمهورية المسلمة ذات الميول الانشقاقية، لمصلحة الكرملين، بعدما كانت الحكومات الأردنية تسير في الخط السعودي في القضية الشيشانية، وتمنح الانفصاليين الشيشان مقرّاً ومنبراً في عمّان.
ويمتلك الأردن، من دون البلدان العربية، أداة تدخلية قوية في الشأن الشيشاني، وذلك بالنظر إلى وجود أقلية شيشانية أردنية ممثلة سياسياً وموالية للحكم. ومن المفارقات أن المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي للشيشان الأردنيين ـــــ الذين هاجروا من بلادهم في أواخر الحقبة العثمانية ـــــ هو أعلى من شيشان الجمهورية السوفياتية السابقة، ما جعل الأوائل مصدراً للدعم وتزويد الانفصاليّين الشيشان بالكادرات السياسية. وسوف تستفيد موسكو، الآن، من هذا الواقع لمصلحتها في تثبيت السلم الأهلي في الشيشان، والضغط على النزعات الانفصالية عن الاتحاد الروسي.
الأردن، مدفوعاً بالأزمة الاقتصادية البنيوية وحاجاته التنموية، كما بمخاوفه من «الحلول الأحادية» للقضية الفلسطينية، يقترب أكثر فأكثر من القبول باقتراحات قدّمها معارضون ومثقفون أردنيون لاتباع سياسات مستقلة ـــــ ولو نسبياً ـــــ عن المحور الأميركي ـــــ السعودي، سواء اختياراً أو اضطراراً. وسوف تتبلور العديد من تلك السياسات المستقلّة في مجالات عديدة خلال العام الحالي 2008، أي أثناء انشغال الأميركيين بانتخاباتهم الرئاسية، قبل أن يتضح مَن سيفوز بالبيت الأبيض، وكيف ستكون السياسة الأميركية الجديدة.
* كاتب وصحافي أردني