عصام نعمان *
كشف اغتيال القائد الجهادي عماد مغنية حقيقة منسيّة هي استمراريّة «حرب إسرائيل الثانية» على لبنان والمقاومة. هذه الحرب، في رأي قائد المقاومة السيد حسن نصر الله، لم تتوقّف أصلاً، لأنّ مجلس الأمن الدولي لم يتخذ قراراً بعد بوقف إطلاق النار. وهي لم تتوقّف بدليل استمرار طلعات الطيران الحربي الإسرائيلي فوق الإقليم الجوي اللبناني، وتواصُل عمليات القوّات البرية الإسرائيلية على قرى لبنانية عدّة على طول «الخط الأزرق»، كالغجر والوزاني والمجيدية.
فوق ذلك، تواصل إسرائيل حربها على المقاومة اللبنانية، بدليل قيامها باغتيال أحد كبار قادتها التاريخيين في دمشق. السيد نصر الله رأى في الجريمة تغييراً في قواعد الصراع. فالحرب كانت تدور بين الطرفين الإسرائيلي واللبناني على أرض لبنان أو على أرض فلسطين المحتلة. باغتيال مغنية، نقلت إسرائيل الحرب إلى أرض ثالثة. إنّه تغيير في المكان والزمان والأسلوب، وفق ما ورد في خطاب نصر الله الأخير. ولذلك، فقد أنذر قائد المقاومة اللبنانية إسرائيل بأوضح عبارة: «إذا أردْتِها حرباً مفتوحة، فلتكن حرباً مفتوحة». ولم ينسَ أن يضع ردّ المقاومة المنتظر في إطار الدفاع المشروع عن النفس.
ماذا تعني الحرب المفتوحة؟
إنها تعني أمرين في آن واحد: استمرارية الحرب، واتّساع مسرحها على مدى العالم كله. فلا قيد عليها في الزمان ولا حدّ لها في المكان.
حكومة إسرائيل فهمت الحرب المفتوحة على هذا النحو، واتخذت من التدابير والإجراءات الوقائية ما يحمي مواطنيها ومسؤوليها ومصالحها ومنشآتها في الداخل والخارج. الولايات المتحدة أبدت قلقها الشديد. لكنها، شأن إسرائيل، لم تناقش مشروعية الردّ، وكأن الحكومتين تسلّمان بحق المقاومة اللبنانية في الردّ وتنتظران ذلك في أيِّ زمان ومكان.
أين يمكن أن تضرب المقاومة؟
وزير الدفاع إيهود باراك توقّع خلال اجتماع الحكومة الأسبوعي أن يحاول حزب الله الرد في داخل إسرائيل أو خارجها، وأن يفعل ذلك بمساعدة إيران وسوريا. الشطر الأول من كلامه لا يفكّ حيرة القيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية. والشطر الثاني يرفع التوقع إلى مستوى اندلاع حرب إقليمية. فهل ردّ المقاومة على هذه الدرجة من الخطورة؟
يبدو أنّ الجواب يتوقّف على طبيعة الردّ وحجمه وفعاليته. فقد أجمع بضعة خبراء استراتيجيين، أحدهم قريب من حزب الله، على أن ردّ المقاومة سيكون في مستوى عملية اغتيال القائد مغنية من حيث «الطبيعة والنوعية والفعالية». ذلك يوحي بأن الردّ سيتخذ طابعاً أمنياً سرياً (استخبارياً) وأن الهدف سيكون بالغ الأهمية، ومن شأنه أن يُحدث دوياً وأصداءً عالمية، ويضمن للمقاومة مردوداً عالياً على صعيد تأكيد قدرتها وهيبتها الردعيّتين.
عندما يأتي الردّ على هذا المستوى من القوة والفعالية والدوي، كيف يمكن أن تردّ إسرائيل؟
لعلّ الجواب يتوقّف، بدوره، على الغاية المتوخّاة من الفعل الإسرائيلي الأصلي، والغاية المتوخاة من ردّ فعل المقاومة اللبنانية. فقد تكون غاية إسرائيل من وراء عملية الاغتيال مجرد التصفية العملانية لكادر قيادي أساسي في المقاومة رأته على مدى 25 عاماً المسؤول الرئيس عن عمليات نوعية ضخمة ألحقت بها خسائر معنوية وبشرية ومادية فادحة. وقد تكون العملية ذاتها جزءاً من مخطّط أكبر يرمي إلى استدراج المقاومة للانزلاق إلى مرحلة أخرى من الحرب المفتوحة على المستويين المحلّي والإقليمي.
في الحالة الأولى، قد تستوعب إسرائيل ردّ المقاومة على عملية اغتيال كادرها القيادي، فلا تردّ بعملية نوعية مؤذية، ما يؤدي إلى نوعٍ من التعادل بين الطرفين المتحاربين، وبالتالي إلى حصر الصراع في حدود ضيقة. في الحالة الثانية، قد تكون المقاومة مدركةً غاية إسرائيل المبيّتة، وهي استدراجها إلى حربٍ أوسع وأقسى على المستويين المحلي والإقليمي، وتكون هي على مستوى عالٍ من الجهوزية والقدرة يمكّنها من المواجهة على نحوٍ يكفل دحر إسرائيل مرة أخرى، فتحرص على أن يكون ردّها نوعياً وضخماً وقاسياً لتضمن إلحاق أفدح الأضرار والخسائر بالعدو، بشرياً ومادياً وسياسياً.
إنّ نبرة خطاب السيد نصر الله وقبوله تحدّي إسرائيل بالحرب المفتوحة من جهة، وإشارته اللافتة إلى أن جهوزية المقاومة وقدرتها كفيلتان بدحر إسرائيل على طريق «الخروج من وجودها» من جهة أخرى، يوحيان بأن ردّ المقاومة المنتظر سيكون شديداً وكبيراً ومدوّياً. وفي هذه الحالة، فإن المواجهة بين الطرفين ستتحوّل حرباً إقليمية بالضرورة، تنخرط فيها الولايات المتحدة إلى جانب إسرائيل (وربما ضدّ إيران أيضاً) بينما تنخرط فيها سوريا وإيران إلى جانب حزب الله ومقاومته في لبنان وحركة «حماس» ومقاومتها في غزة (وربما في الضفة الغربية أيضاً).
في انتظار ردّ المقاومة على اغتيال مغنية، يبدو أن خطاب السيد نصر الله، المترع بالثقة والتحدي والعزم، بدأ ينتج مفاعيله. فقد اندلعت في إسرائيل مناقشة حامية في الأوساط السياسية والإعلامية في شأن جدوى عملية دمشق. جدعون ليفي لخّص في مقالته اللافتة في صحيفة «هآرتس» هذه اللاجدوى الباهرة بقوله: «لا تسافروا، لا تُظهروا هويتكم الحقيقية، لا تتجمهروا، توخّوا الحذر، عمّموا حالة تأهب قصوى في الشمال وفي كل السفارات الإسرائيلية في الخارج وفي التجمعات الإسرائيلية في أرجاء العالم. إن كانت هذه هي المخاطر التي تتربّص بنا، فيجب أن نسأل: من أجل ماذا كنا بحاجة إلى هذه العملية»؟.
الجدل في شأن جدوى عملية اغتيال مغنية يترك آثاراً بارزة لدى هيئة أركان الجيش الإسرائيلي، وبالتالي لدى باراك، قد يضطرّ معها وزير الدفاع المتوجّس من حجم الرد المنتظر للمقاومة، إلى أن يؤجّل هجومه على قطاع غزة، أو إلى أن يخفّف على الأقل من حدته. بذلك يكون مغنية قد خدم المقاومة الفلسطينية في شهادته كما خدمها دائماً في حياته.
في لبنان، يبدو الوضع بعد اغتيال مغنية أكثر تعقيداً وغموضاً. فحكومة السنيورة وقـوى 14 آذار الموالية ترتعد خوفاً من إمكان اندلاع الحرب مجدداً على نطاق واسع، كما تدرك أن خطاب نصر الله وتوعّده إسرائيل بحربٍ مفتوحةٍ قد أنعش شعبيته في العالم العربي، فما عاد يرضى والمعارضة بتسوية سطحية للأزمة السياسية المستفحلة لا تضمن لهما مشاركة وازنة في الحكومة المقبلة. هذا يعني تعذّر انتخاب رئيس الجمهورية وتأليف حكومة جديدة قبل مؤتمر القمة العربية في شهر آذار المقبل، وربّما قبل انتهاء ولاية جورج بوش مطلعَ عام 2009.
قد لا تأسف المقاومة (والمعارضة) على تأجيل تسوية الأزمة اللبنانية في الوقت الحاضر، فهي مشغولة بتحدّيات المواجهة المرتقبة مع إسرائيل. إلا أن ما يقلقها هو عودة فريق من قوى 14 آذار إلى طرح قضية مصير لبنان والتلويح بطلاق محتمل بين ملوك الطوائف، الطوائف بما هي قبائل القرن الحادي والعشرين. وأكثر ما يخشاه قادة المعارضة أن تكون المرحلة الجديدة من الحرب المفتوحة مع إسرائيل فرصةً قد ينتهزها بعض قوى 14 آذار للانخراط في مشروع قديم للانتقال بالمنطقة من ترتيبات اتفاقية سايكس ــــ بيكو إلى ترتيبات جديدة يجري بموجبها توفير حدود آمنة لإسرائيل، هي عبارة عن طوق من جمهوريات الموز القبلية والطائفية والإثنية على امتداد بلاد الشام وبلاد الرافدين.
وحده السيد حسن نصر الله، من بين قادة المعارضة، يبدو مطمئناً ومبتسماً ابتسامة الواثق وجازماً: الطلاق
ممنوع!
* كاتب وسياسي لبناني