بلفاست ــ عمر نشابة
رمى مجهول قنبلة «مولوتوف» حارقة مساء أمس على أحد المنازل في الجهة المقابلة... حادث يتكرّر يومياً تقريباً رغم مرور سنين على وقف إطلاق النار، ورغم التسوية التاريخية الشهيرة التي أعقبها تعديل الدستور وإطلاق عهد جديد مبنيّ على المحاصصة بين زعماء الأطراف المتناحرة.
تبعد منطقة البسطا ـــــ رأس النبع البيروتية آلاف الكيلومترات عن مدينة بلفاست الإيرلندية الشمالية. لكن الاحتقان المذهبي يضعهما في دائرتَي توتّر متشابهتين بعد مرور سنين على تسويتين مماثلتين لصراعات أهلية سابقة. عشر سنين مضت على اتفاق «الجمعة العظيمة» بين الجيش الجمهوري الكاثوليكي والحزب الديموقراطي الإنجيلي، و17 سنة مرّت على اتفاق «الطائف» بين مختلف المذاهب والأحزاب اللبنانية المتصارعة، واليوم يتكرّر بروز بعض المشاهد التي تذكّر بالمراحل الدموية «القديمة».
«لا، لا يمكن العودة إلى الحرب الأهلية»، قال كوينتن أوليفر خلال جولة في شوارع بلفاست، وهو يشير إلى طريق تؤدي إلى مبانٍ حكومية أُعيد فتحها للمارّة منذ شهر واحد فقط، بعد رفع الحواجز الإسمنتية و«إعادة انتشار» الجيش الملكي البريطاني. لكن السياسي الإيرلندي المخضرم لم يعلّق كثيراً على الأسلاك الشائكة والجدران العالية والشباك الحديدية التي تحمي مداخل المنازل والمدارس والمتاجر ومنافذها في الجهة المقابلة. إذ تفصل بين الأحياء الكاثوليكيّة والأحياء الإنجيلية ما يسمّى «جدران السلام» لحماية الحيَّين المتواجهين من الحجارة والقنابل الحارقة التي يتراشقون بها باستمرار. وفي الجدران أبواب، تفتح أحياناً وتغلق ليلاً لقطع الطريق على المتسلّلين «المخرّبين» الذين لطالما عُدُّوا ضمن محيطهم مناضلين لنصرة حقوق شعبهم.
عدد المهجّرين بسبب الصراعات المذهبية في إيرلندا الشمالية يفوق عددهم في لبنان بأضعاف، ولا رغبة للبعض في العودة، وخصوصاً الأقليات من أحياء الأكثرية المذهبية، كاثوليكية كانت أو إنجيلية.
الكاثوليك يهيمنون على غرب بلفاست، بينما يهيمن الإنجيليون على شرقها، وتتميّز المناطق الشمالية والجنوبية بأحيائها المتداخلة مذهبياً.
أوجه الشبه تجعل الكاثوليك «شيعة إيرلندا الشمالية». فمستوى الدخل الفردي لديهم أقلّ من الإنجيليين في المدن الكبرى، وهناك شعور مشترك لديهم يشبه إلى حدّ ما عقيدة «المستضعفين». ويشعر الكاثوليك بأنهم محرومون من المشاركة الكاملة في إدارة شؤون الدولة. وقبل وقف إطلاق النار والتسوية السياسية في أواخر القرن الماضي، كانت حصّة الكاثوليك في الخدمات الاجتماعية والصحية والمجال الاقتصادي بشكل عام ضئيلة نسبة لحصّة الإنجيليين المدعومين من الحكومة البريطانية المركزية في لندن.
ولدى الكاثوليك صلات وثيقة بجمهورية إيرلندا بسبب الانتماء المذهبي المشترك. ويمكن اعتبار إيرلندا الجمهورية الإسلامية الإيرانية بالنسبة إلى «شيعة إيرلندا الشمالية». وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أن الإنجيليين هم المسيطرون عددياً على أوروبا الغربية الشمالية بشكل عام، رغم كون الأكثرية «الحقيقية» من الملحدين. ففي ألمانيا والدنمارك والنروج والسويد وهولندا وحتى فنلندا، يفوق عدد الإنجيليين بأضعاف عدد الكاثوليك، وذلك يشبه إلى حدّ كبير وضع السيطرة العددية السنيّة في منطقة المشرق العربي. وفي هذا الإطار، قد تجمع بين السنّة والإنجيليين أوجه شبه عديدة، بحيث إن سنّة المدن في لبنان اليوم يمسكون مفاتيح الدولة، ولديهم سيطرة شبه كاملة على بعض إداراتها، وذلك بدعم من السعودية والأردن ومصر ذات الأغلبية السنّية الساحقة. وليس هناك وزير شيعي واحد في الحكومة الحالية بعد استقالتهم منذ أكثر من سنة.
تبلغ اليوم نسبة الكاثوليك في إيرلندا الشمالية 43 في المئة مقابل 57 في المئة من الإنجيليين، لكن نسبة النموّ الديموغرافي للكاثوليك تفوق نسبة نموّ الإنجيليين الديموغرافية، ومن المتوقّع أن يزيد عدد «شيعة إيرلندا الشمالية» الكاثوليك عن عدد «السنّة الإنجيليين» فيها خلال السنوات العشر المقبلة.
أنشأ الكاثوليك جيشاً جمهورياً لـ«المستضعفين» في مطلع سبعينيات القرن الماضي وأطلقوا عليه اسم «الجيش الجمهوري الإيرلندي»، وتلقوا الدعم المادي والعسكري من كاثوليكيين إيرلنديّي الأصل في كلّ أنحاء العالم، كما وقفت إلى جانبهم قوى التحرّر اليسارية الثورية العالمية إلى حدّ اعتبار المناضل الأرجنتيني تشي غيفارا من أصول إيرلندية شمالية.
ولمواجهة الجيش «الشيعي» الإيرلندي الجمهوري، أسس الإنجيليون «الحزب الديموقراطي الوحدوي» وهو أشبه بـ«تيّار المستقبل» السنّي في لبنان. إذ إن الحزب الوحدوي كان مدعوماً من الحكومة المركزية في لندن. وخلال المواجهات بين مناصري المذهبين، كانت قوى الشرطة تنحاز إلى الحزب الوحدوي لقمع «الجمهوريين الشيعة» الذين اتهموا بولائهم لإيرلندا بدل ولائهم لبريطانيا العظمى «أولاً». وخلال الحرب تحوّلت كل مراكز الشرطة في إيرلندا الشمالية إلى أهداف لهجمات الثوّار الكاثوليك. وما زالت تلك المراكز حتى اليوم محصّنة بدفاعات من الحديد والإسمنت، وهي أشبه بثكنات ومراكز عسكرية نازيّة خلال الحرب العالمية الثانية.
بعد وقف إطلاق النار وتسوية «الجمعة العظيمة»، تغيّرت تصرّفات الشرطة في إيرلندا الشمالية، ولم تعد قياداتها محصورة بـ«سنّة» إيرلندا الشمالية، وتمّ التشديد على التوازن بين المذهبين داخل المؤسسة. خلق ذلك ارتياحاً لدى جميع الأطراف وأعاد إلى حدّ كبير صدقية الشرطة وسهّل عملها في مختلف أنحاء البلاد. لكن آثار الماضي الدموي الأليم لم تُزل.
أما الجيش البريطاني، فأعيد تمركزه داخل الثكنات المنتشرة في كل أنحاء إيرلندا الشمالية بعد سنين من التصادم المستمرّ بالمتظاهرين في شوارع بلفاست وديري. والجميع ينتظر حزيران المقبل موعداً لإعلان نتائج التحقيق القضائي في قضية إطلاق الجيش النار على «شيعة إيرلندا الشمالية» في «الأحد الدموي» منذ 36 عاماً. وهناك تخوّف يسود أوساط «الشيعة الكاثوليك» من احتمال «التلاعب» بحقيقة ما حصل.