فيما تكمل القوات العراقية – وجلّها من الحشد الشعبي – عملية تطويق تكريت، بعدما حرّرت العلم ودخلت البوعجيل، لا تزال الهوّة فاضحة بين رؤية العراقيين للمعركة ومواكبة العرب لها؛ وما زال الخطاب عن العراق داخله أفضل بكثير من ذاك الذي في الخارج.نفهم بسهولة أن يكون دور الاعلام النفطي في العراق كدوره في سوريا، وأن يقوم «مثقفون» بترداد سردية القوّة ذاتها بنسخٍ مختلفة («علمانية»، عروبية، بعثية، الخ)، فهذا دورهم؛ ولكن من غير المفهوم أن يكون هناك – بين الأصوات الحرّة - تردّدٌ واستحياء في أخذ موقفٍ داعمٍ للحشد الشعبي، بل وأن يشارك البعض في نزع الشرعية عنه، وتصويره (كما فعل الصديق أسعد ابو خليل، مثلاً) على انّه مجرّد كيان «طائفي».

فلنضع جانباً وقائع من نوع أن آلاف التكارتة يقاتلون الى جانب الحشد وفي صفوفه، وأن عوائل مهجّري الأنبار وصلاح الدين (وهي بمئات الآلاف) تقيم في الجنوب والنجف وكربلاء، حيث خصّصت مضافات الزوار ومرافقها لاستضافتهم؛ النقد «العلماني» للحشد يجعلنا نتساءل، قبل أي شيء آخر، عن مفهوم هؤلاء الناقدين للطائفية. هل هم يرون أنّ الطائفية هي في الخطاب والسلوك السياسي والالتزام بمعايير الوطنية والوحدة، أم انّه يكفي أن تكون اسلاميّاً حتّى تصير طائفياً ومستفزّاً وينتهي النقاش؟
في خطاب قادة العصائب أو الكتائب – التي توصف، ازدراء، بـ«الميليشيات الشيعية» - لن تجد كلمة طائفية واحدة، أو جملةً كارهة، أو خياراً سياسياً خارج الوطنية العراقية، وهم خلفهم تراث من المقاومة ضد الاحتلال، ولم يتورطوا في الحرب الأهلية، وينبذون الطائفية والمحاصصة بوضوح وصخب؛ فهل يقصد من يساويهم بـ«داعش» أنه ما من اسلامي أفضل من آخر؟ وانّه يجب أن ننتظر أن ينبت جيلٌ «علمانيّ» يناسبه حتى ننظر في أمر أرضنا السليبة؟ (وجيل كهذا، حين كان موجوداً، كان سيئاً، وقادنا الى أفدح هزائمنا، وكره الناس – في نهاية الأمر - وكرهوه).
حتّى يفهم النّاس النتائج المنطقية لكلامهم والى اين يقود، فإنّ هناك اليوم – ضمن حدود الموجود – ثلاثة احتمالات:
ــ امّا أن يحرّر العراقيون والحشد الشعبي تكريت، بدعمٍ إيراني ومساعدة من حزب الله الذي ينظر اليه الكثير من شباب الحشد، والى قائده، كمثالهم الأعلى (وان كان البعض يفضّل، على ما يبدو، أن يقتدي ابناء هذا الجيل باياد علّاوي ومثال الألوسي).
ــ أو أن «يحرّرها» الأميركيّون؛ وهو ما دعا اليه سعود الفيصل حين طالب بارسال الجيش الأميركي ليقاتل على الأرض في العراق.
ــ أو أن تظلّ هذه المناطق في يد «داعش»، تحت شعار أنّ يكون تحريرها – حصراً – على يد ابنائها.
والخيار الأخير، بالمناسبة، هو المفضّل لدى الطائفيين الشيعة، الذين ينادون بأن «يحرّر السنة أرضهم» (كأن هناك في العراق أرض «شيعية» وأخرى «سنية»)، مستنكرين أن تجري التضحية بأبناء المحافظات الجنوبية في مناطق «غيرهم»، وليأخذ هذه المحافظات من يشاء: «داعش»، أميركا، تركيا، لا يهمّ. وبالفعل، من وجهة نظر هؤلاء، ما من مراقد مقدّسة في صلاح الدين ونينوى، ولا تنافس طائفي، ولا حتى نفط وثروات تستحقّ القتال لأجلها.
أيّهما أفضل اذاً: أن يقود الوضع الحالي الى تكريس التقسيم والتجزئة؟ أم أن يقاتل ابناء العمارة والحلّة والديوانية في محافظات الشمال والغرب لتحرير وطنهم، وأن يقدموا الشهداء لحفظ وحدة العراق، ويفهموا – لأجيال مقبلة - أن هذه أرضٌ تخصّهم، قد حرروها بدمائهم؟
بينما يقف محافظ صلاح الدين الى جانب هادي العامري شاكراً الحشد الشعبي، وفيما يتبادل العراقيون صور المقاتلين - سنّة وشيعة - يصلّون معا، وينظرون الى تحرير تكريت كمعركة وطنية، يصرّ الكثير من اخوتهم العرب على تشبيهم بـ «داعش» وتسفيه تضحياتهم وتبرير قتلهم. حلفاء الخليج في العراق، في هذه الأثناء، يحتمون في كردستان (وكر الجاسوسية الأميركية) بعدما فرّطوا بأرضهم وتركوها لـ«داعش»، وهم يتلهّون عن تحرير مدنهم بالتحريض الطائفي، والجمهور العربي يصدّقهم. البشمركة، وهنا المفارقة، تمارس بالفعل تطهيراً عرقياً وهندسة ديموغرافية، وتسلب «العرب السنة» مناطق واسعة في نينوى وكركوك - ان لم يدخلها الحشد الشعبي، بالقوة، ويحرّرها فقد يخسرها العراق العربي الى الأبد.
من يذكر اليوم، في الاعلام العربي، مجزرة الكلية الجوية في تكريت (ما زال الكثيرون يسمّونها، للأسف، «قاعدة سبايكر»؛ وهو تعبير يجب أن يخرج من التداول، وخاصة اذا عرفنا من هو سكوت سبايكر الذي أُعطي اسمه للمكان)؟ قبل أن يفرض المثقّف العربي شروطه على العراقيين، فليتنازل قليلاً ويتماهى مع وجدانهم ومآسيهم ونظرتهم الى الأمور، وسيعرف لماذا هم يقاتلون اليوم، وضد من.
في حزيران 2014، كان هناك أكثر من 1500 طالب في الكلية الجوية، يأتون من أفقر عائلات العراق، انضموا كلّهم الى برنامج التدريب في الشهرين السابقين. حالما بدأت المعارك وسقطت الموصل وتكريت في يد «داعش» وحلفائها، شاع بين هؤلاء المجندين، قبل حصول أي مواجهات وقتال، أنّهم في حلّ من الخدمة العسكرية؛ فلبسوا ثيابهم المدنية وخرجوا عزّلاً من القاعدة عائدين الى ديارهم. يقول تقرير التحقيق الرسمي في المجزرة إن جموع المجنّدين لاقت حاجزاً لمناصري «داعش» شمال القاعدة مباشرة، أوهمهم بأنه يتبع للقوات العراقية، وأرسلهم الى مكانٍ آخر حيث وضعوا في حافلات، قيل لهم إنها ستأخذهم الى الأمان. بدلاً من ذلك، جرى أسر المجنّدين وسوقهم، تحت السلاح، الى مجمّع القصور الرئاسيّة؛ وفي ظلّ قصر صدّام الذي اعتقد هؤلاء المساكين انّهم قد تخلّصوا منه ومن عنفه الى الأبد، قُتلوا جميعاً بلا رحمة.