علاء اللامي *
في رسالته إلى هيئة رئاسة الدولة، عرض نوري المالكي الأسس والمبادئ الواجب اعتمادها في تأليف الحكومة المقبلة، وهي: «عدم اعتماد مبدأ المحاصصة الطائفيّة، بل التمثيل العادل لمكوّنات الشعب العراقي، واختيار وزراء من ذوي الخبرة والمهنية، تكون مهنية الوزراء مقدّمة على انتمائهم الحزبي والسياسي، وألّا يتجاوز عدد الحقائب الوزارية (22) حقيبة».
سنتوقّف هنا لمقاربة ما يحاول المالكي تسويقه كنقيضين لا يمكن الجمع بينهما: الأول سلبي ومرفوض، مع أنه يحكم باسمه وبموجبه الآن، وهو مبدأ المحاصصة الطائفية والعرقية، والثاني إيجابي ومقبول، هو مبدأ «التمثيل العادل لمكوّنات الشعب العراقي» مضافاً إليه بعض التوابل التي لا تعني شيئاً في الحكم القائم أصلاً على المحاصصة الطائفية، من قبيل «ذوي الخبرة والاختصاص والمهنية». وسنحاول البرهنة على أنهما ـــــ المحاصصة والتمثيل ـــــ ليسا نقيضين ولا يحزنون، بل رديفين أو شكلين لمضمون سياسي رجعي واحد.
وقبل أن نبدأ هذه المقاربة، نسجّل أنّ أخبار مؤكّدة نُشرت أخيراً ورد فيها أن البرلمان الحالي، وكتلاً رئيسية فيه، ترفض التنازل عن حصصها ومكتسباتها الطائفية، وترفض أيضاً تقليص عدد الوزارات «خاصتها»، حتى إن السيد نديم الجابري، أحد قياديّي حزب الفضيلة الإسلامي، أعلن بوضوح قبل أيام قليلة أن الطائفية في العراق أصبحت أقوى.
تنطوي عبارة «التمثيل العادل للمكونات الشعبية» على حيلة تُسَوَّق بموجبها المحاصصة الطائفية في حلة جديدة. فليس المقصود بالمكونات التقسيم الاجتماعي الطبقي، ولا التقسيم المهني والفئوي، حيث يجري تخصيص نسب معينة من السلطة التشريعية أو التنفيذية للعمّال والفلاحين مثلاً، وهو ما دأب الحكم الناصري في مصر على الأخذ به، وما زال هذا التقليد جارياً حتى خلال عهد مبارك، ولا تخصيص حصص «كوتات» للأقليات الدينية والعرقية غير القادرة ـــــ لأسباب بنيوية في نماذج انتخابية قاصرة ـــــ على تصعيد ممثّليها إلى السلطة التشريعية، بل هو تقسيم السلطة التنفيذية بشكل «عادل» بين ممثّلي أو مدّعي تمثيل الطوائف والقوميات العراقية في مجتمع قرّرت سلطة الاحتلال، التي هي السلطة الفعلية، حتى باعترافات خجولة من أصدقائها الحاكمين المحليّين، تجميده في حدود البنى الاجتماعية التقليدية اللاتاريخيّة، ونعني بها البنى الطائفية: «الشيعة والسنة»، والعرقية: «العرب والأكراد»، وحتّى العشائريّةمن المستحيل على حلفاء الاحتلال أن يحكموا دون هذه الرافعة «الطائفية» التي تعادل من حيث الفعالية والقوّة الرافعة العسكرية التي يمثّلها جيش الاحتلال المضطلع بدور الحامي والمحرّك.
ليس بوسع حلفاء الاحتلال تصوّر أن من الممكن أن تضمن الديموقراطية العلمانية حقوق المواطن العراقي. فهم لا يتصوّرون العراقي مواطناً قط، بل رقم في طائفة. وعليه، ليس بوسعهم تصوّر أن العراقيّين يمكنهم أن ينتخبوا كردياً أو كلدانياً لرئاسة الدولة أو رئاسة الوزراء، وهو أمر طبيعي مشروع ديموقراطياً تماماً (في الهند مثلاً أوصلت الديموقراطية العلمانية مسلماً إلى رئاسة الدولة، نسبة المسلمين حوالى 15 في المئة، وسيخياً إلى رئاسة الوزراء، مع أنّ نسبة السيخ السكانية أقل من 2 في المئة، ليس على أساس انتمائهما الطائفي، بل على أساس عضويتهما في أحزاب سياسية غير دينية). الأكثر غرابة هو أنّ المالكي الذي يريد إقناع الآخرين بأنه معارض للطائفية السياسية يخاطب ويقدّم طلبه هذا إلى هيئة الرئاسة المشكّلة بدورها على أساس المحاصصة ذاتها. فالرئيس كردي، ونائبه الأول شيعي والثاني سني، وكذا الأمر في رئاسة الوزراء، حيث رئيس الوزراء شيعي، ونائبه الأول سني، والثاني كردي، أمّا البرلمان فرئيسه سنّي ونائبه الأوّل شيعي والثاني كردي. وقد يحتجّ المدافع عن هذا النهج في الحكم بأن هذه التقسيمات غير مُدَسْتَرَة، وبالتالي فهي مؤقّتة. وهذا صحيح شكلاً، لكنه لا يعني شيئاً. فحتى في لبنان، حيث الحكم متجمّد تاريخياً (ومتفسّخ) في التقسيم الطائفي منذ الاستقلال، لا توجد مادة دستورية تنص على أن يكون رئيس الجمهورية مارونياً، ورئيس الوزراء سنياً، ورئيس البرلمان شيعياً، بل هي تقسيمات لها قوّة التفاهمات المتَّفق عليها والجارية مجرى العرف السائد والمفروض بموجب قوانين الصراع وموازين القوى الطائفية، الذي لا خروج عنه، إذ سيعني هذا الخروج حكماً الدخول في حالة الحكم الديموقراطي العلماني في المجتمع المندمج والقائم على أساس المواطنة الحديثة، حيث المواطن هو الإنسان لا الرقم المحدّد والمحسوب ضمن طائفة أو إثنية.
إن النقيض الحقيقي والمباشر والبنّاء لحكم المحاصصة الطائفية هو الحكم الديموقراطي العلماني في مجتمع مندمج أو سائر في طريق الاندماج المجتمعي. أما القول برفض المحاصصة الطائفية، ورفع مبدأ «التمثيل العادل للمكونات»، فليس سوى لعب غير ذي جدوى على الكلمات، وإدخال للّص من الشباك بعدما «طرد» من الباب، فيما تدور اللعبة السياسية الفاسدة ضمن الدوائر والخطوط التي رسمها المحتلّ منذ البدء.
في منظور آخر، يمكننا أن نرى هذا التناقض الزائف بين المبدأين «المحاصصة والتمثيل» على اعتبار أن الأول ذو قشرة رجعية فاقعة، تعني توزيع السلطات والثروات بين ممثّلي أو مدّعي تمثيل الطوائف والإثنيات المتحالفين مع المحتلّ، بينما الثاني، «التمثيل العادل للمكوّنات» هو الصيغة الأقل صخباً والـ«مودرن» شكلاً ولفظاً. فما دامت المكوّنات في عرف هؤلاء هي لاتاريخية ـــــ طوائف وإثنيات وحتى عشائر ـــــ فلا يعني التمثيل «العادل» لها سوى المحاصصة الطائفية، وقد أضحت قانوناً دستورياً غير مكتوب.
أخيراً، لنا أن نتأمّل، بكلّ القلق الممكن تصوّره، دلالات رفض الكتل البرلمانية الرئيسية لفكرة التنازل عن مكتسباتها الطائفية وحصصها في السلطات والثروة، كأوّل شرارة في حريق البيدر. ولكن ليس لأن (الطائفية أصبحت أقوى)، كما يقول الجابري، بل على العكس لأنها فُضحت وضعفت وباتت تخشى على إنجازاتها المتحقّقة من هبوب رياح التحرير والديموقراطية الحقيقية. ولهذا فهي ستدافع عنها باللحم الحيّ للعراقيّين الأبرياء الذين ستجنّدهم في جيوشها وميليشياتها الطائفية، وهم الذين لا ناقة لهم ولا جمل في حروب الطائفيين حلفاء الاحتلال.
* كاتب وصحافي عراقي