بدر الإبراهيم *
نسمع ونقرأ كثيراً عن «القومجي» و«الإسلاموي». نقرأ عن ادّعائهم احتكار القوميّة العربيّة والإسلام، وعن شعاراتهم الفارغة وغوغائيتهم ولعبهم على الوتر الغرائزي واستغلالهم لعواطف الجماهير. في كثير من الأحيان تُعطى توصيفات القومجي والإسلاموي لبعض الأشخاص لفصلهم عن الفكر الذي يدَّعون الانتماء إليه وتوضيح أنهم مجرد مدَّعين. في هذا السياق يمكن الحديث أيضاً عن «الليبرالجي».
يرفع الليبرالجي شعارات مثل الحرية والاستقلال والديموقراطية،لكنه يُبرز العديد من التناقضات بين فكره وممارسته. فهو مثلاً يظهر كمدافع عن حقوق الإنسان والديموقراطية، وفي الوقت نفسه يطبّل لأنظمة عربية لا تعرف معنى الممارسة الديموقراطية. وهو يطبّل إمّا لتحقيق مكاسب شخصية على حساب المبادئ أو لتحريض تلك الأنظمة على الخصوم (الإسلاميّين تحديداً)، بل إنّه يصفّق بشدة لعمليات الاعتقال التعسّفي التي تطال أنصار الحركات الإسلامية بطريقة غير قانونية، ويبرّر ذلك بالقول إنّها الوسيلة المناسبة لمنع إقامة ديكتاتورية دينية. إنّه هنا يدعو لمحاربة الديكتاتورية بالديكتاتورية. لا شكّ في أنه يؤمن بالديموقراطية، لكن ليست تلك التي توفّر لخصومه الوصول إلى السلطة. إنه لا يدرك أنه بهذا الموقف يفقد صدقيته ويزيد من شعبية خصومه.
الليبرالجي يؤيّد الاستعمار الجديد، ولا يجد حرجاً في الاستعانة بالقوى الخارجية لإنجاح مشروع التغيير الذي يتبنّاه في الداخل ويعجز عن تحقيقه. المشكلة في أنه يواصل المراهنة على الديموقراطية والإصلاح القادمَين من الخارج، رغم أن تجربة العراق أثبتت أن الاستعمار الجديد لم يجلب سوى الفوضى وسيادة الإرهاب والميليشيات الأصولية وخراب البلد.
لا يكتفي الليبرالجي بتأييد الاستعمار الجديد، بل يُظهر حنيناً وشوقاً إلى عهد الأنظمة الحاكمة إبان الاستعمار القديم (البريطاني والفرنسي)، وهو يؤكّد أنها أنظمة ليبرالية ديموقراطية، ويشيد بالتعددية الحزبية وتداول السلطة في تلك العهود. ما ينساه الليبرالجي ــــ أو يتناساه ــــ هو أن هذه الأنظمة كانت مسلوبة الحرية منزوعة الإرادة، وأن سلطة الاستعمار كانت هي الحاكم الفعلي، وكانت تسقط حكومات وتصنع أخرى إذا اقتضت الحاجة. والشواهد التاريخية كثيرة. أمّا إذا كان الهدف من امتداح تلك الأنظمة هو توضيح أنّها أفضل من أنظمة الحكم العسكرية التي جاءت بعد ذلك، فهذه دلالة على تراجع فكري. إنّ المقارنة لا تكون بين سيِّئ وأسوأ، وتنتهي بالرضا بأهون الشرور، بل تكون بين سيِّئ وجيّد نظرياً. أي إن التركيز يجب أن يكون على ما نتطلّع إليه، لا على تفضيل نظام فاسد على نظام أكثر فساداً.
يتحدّث الليبرالجي كثيراً عن الواقعية والعقلانية، ويدعو باسمهما إلى التسوية والتطبيع مع إسرائيل. إنه لا يرى أملاً للعرب إلا بتوقيع اتفاقات على غرار كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة. الواقعية هنا مرادف للانهزامية والاستسلام لا للتسوية والسلام. إنها دعوة للرضا بالقدر الإسرائيلي. في نظر الليبرالجي تقتضي الواقعية الإذعان لإسرائيل وتقديم التنازلات المجانية والتفريط في الحقوق، وعندما تحدّثه بواقعية عن صلافة إسرائيل وعدم قبولها منطق السلام العادل القائم على تسوية مرضية للجميع، يقول إنّ موازين القوى مختلّة ولا تسمح إلا بتنازلات عربية للطرف الإسرائيلي. وهذا المنطق هو نفسه الذي يستخدمه لاستنكار فكرة مقاومة المحتل. وإذا حدّثته عن مقاومة الأميركيّين للاستعمار البريطاني والفرنسيّين للاحتلال النازي يقول لك إن ظروف العرب لا تسمح بالاقتداء بهذه النماذج. بالنسبة إليه، تسمح ظروف العرب بتمثّل النموذج الغربي في كل المسائل إلا هذه المسألة!
إن مشكلة الليبرالجي الأساسية هي أنه يكتفي بالتذمّر والتشكّي من الواقع العربي المناهض للتحديث والتغيير، أو يطلب العون من الخارج ويتحالف مع المحافظين الجدد. في الحالتين لا يبذل الليبرالجي أي جهد في سبيل توصيل أفكاره وقناعاته للناس. إنها ليست مشكلة الليبرالجي وحده، بل إن أصحاب الفكر الليبرالي ــــ أكانوا ليبراليين حقيقيين أم ليبرالجيين ــــ محصورون في مجموعة من النخب ومجموعة من الأفراد الذين ينفّسون عن غضبهم من الواقع في الإنترنت، وهم جميعاً غير قادرين على تكوين قاعدة جماهيرية في مجتمعاتهم تؤمن بالقيم الليبرالية. بل إن مجتمعاتهم لا تزال تنظر إلى مصطلح الليبرالية نظرة سلبية، حيث إنهم لم ينجحوا حتى الآن في إيصال مفهوم الليبرالية إلى الناس. كان يفترض بهؤلاء أن يبدأوا بالعمل من أجل الوصول إلى الناس وطرح مفهوم التوعية بديلاً عن التعبئة التي يرفضونها وتطبيق القيم التي يؤمنون بها في سلوكهم وممارستهم.
أخيراً، فإن الليبرالجي يشتعل غضباً عند قراءة مقال كهذا، ويبدأ بالتشكيك بنيّات كاتبه، لأنه ببساطة، لا يقبل بمبدأ النقد إلا إذا كان هو الناقد!
* كاتب سعودي