علي شهاب *
ترسم 3 عناوين رئيسية حدود المشهد الاستراتيجي والسياسي، وبالتالي الأمني، في العالم لعام 2008:
1- الحرب الأميركية على الإرهاب التي دخلت مرحلتها الأخيرة؛ من خلال تسليم العالم السني مهمة القضاء على فلول «القاعدة» (كما في العراق) وتعزيز التعاون مع الحلفاء في الشرق الأوسط.
2- صعود روسي بفعل فقد توازن القوّة الأميركي نتيجة الحرب في العراق وأفغانستان.
3- ارتفاع أسعار النفط والطلب الصيني المتزايد الذي يؤدّي إلى إعادة تكوّن الخارطة المالية والاقتصاديّة العالميّة.
هذه العناوين الثلاثة يتقاطع بعضها مع بعض، ومع عنصر رابع مرحلي (لكن تداعياته قد تكون مفصلية) هو الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة الأميركية.
عادة ينخفض مستوى «التورّط» الأميركي بالسياسة الدولية في موسم الانتخابات الرئاسية، ما يسمح لقوى دولية أخرى بوضع مصالحها على الطاولة، لكن عام 2008 سيكون مختلفاً بسبب عدم ترشح أي مسؤول أميركي من الإدارة الحالية للانتخابات، وبالتالي، فإن الإدارة الحالية تجد نفسها متحرّرة من أي التزام، وبما أن تفويض الكونغرس لبوش ينتهي في شباط المقبل، ما يعني عجز الرئيس الأميركي عن إمرار أي اقتراح أو مشروع قانون في الكونغرس، فمن المتوقَّع أن ينصبّ جهد الرئيس على السياسة الخارجية، وخاصة أنّ نشاطات هذا العنوان لا تحتاج إلى موافقة الكونغرس (حتى في العمل العسكري، هناك حدود دقيقة في القوانين الأميركية تتيح لبوش خوض حرب بعنوان حملة عسكرية للدفاع عن القوات الأميركية في الخارج).
ولكون العراق وأفغانستان يمثّلان ميدان واشنطن الأول، فمن الطبيعي أن ساحات العمل الرئيسية التي سيخوض الأميركيون غمارها هي الدول التي تحدّ هاتين الدولتين؛ أي: السعودية وسوريا وإيران وباكستان.
المرحلة الأولى التنفيذية لهذا السياق كانت في إجبار باكستان على التعاون الأمني والعسكري مع الولايات المتحدة في ما يخصّ الوضع في أفغانستان.
تبع ذلك غزو العراق، لإيجاد مبرّر للتورّط مع الدول الثلاث الباقية المحيطة به:
السعودية وإيران وسوريا. ولكي يجد هذا الغزو «والتورّط» اللاحق مسوّغاً له أمام الرأي العام العالمي والأميركي، رفع بوش راية الحرب على «القاعدة» عنواناً لهذه المرحلة. (لذا يجري التركيز في أدبيات الإدارة الأميركية على تعاون دمشق وطهران في هذا الأمر).
خلال عام 2007، تبين أنّ هذه الاستراتيجية أسفرت عن أثمان غير متوقَّعة:
- لم يُهزم تنظيم «القاعدة» ـــــ وجدت واشنطن نفسها متحالفة مع الدول التي أوجدت «القاعدة» بالأصل ــــــ لم تحصل الإدارة الأميركية على مبتغاها من إيران وسوريا.
وبشكل أدقّ، فإن هذا الواقع يضع إيران، القوة الوحيدة غير السنية في المنطقة، أمام تحدّي ترتيب العلاقة مع الولايات المتحدة. الموضوع النووي هنا يأتي في آخر سلم الأولويات الأميركيّة.
إذاً سيبقى العراق هذه السنة محوراً لانطلاقة السياسة الأميركية، لكنّ الأسلوب سيختلف: تدرك كل من واشنطن وطهران أن بإمكانهما دعم العراق لكن ليس إدارته؛ لأسباب تخص التكوين العراقي الفريد والمتناقض. وبالتالي، ستخفض الولايات المتحدة عديد جنودها في العراق إلى مئة ألف جندي، إذ لا يمكن أن يحدث انسحاب كبير للقوات إلّا متى أيقن الأميركيون أنه بإمكانهم الانتقال من الرؤية التكتيكيّة إلى الرؤية الاستراتيجية، أي بعبارة أوضح الانتقال من حالة تسيير دوريات في المدن العراقية إلى حالة التموضع في قواعد عسكرية صغيرة متنقّلة.
وبما أن طهران لا تبدو مستعجلة لإنقاذ الأميركيين من الوحل العراقي والأوحال الأخرى ـــــــ موقف مرشد الثورة الإسلامية آية الله علي خامنئي الأخير بشأن عدم وجود مصلحة للشعب الإيراني حالياً في فتح حوار مع الولايات المتحدة يعزز هذا الأمر ـــــــ فمن المفترض أن تسير عربة التفاوض بين الطرفين ببطء شديد. هذا البطء يعزّز فعالية وتأثير تدخّل أطراف متضرّرة من عملية التفاوض: إسرائيل مثلاً. كما هي حال القوى العالمية الصاعدة: روسيا والصين.
من هنا، تتّخذ الدبلوماسية الأميركية أهمية في مسارها في الفترة الحالية لناحية كسب الأوراق السياسية في مواجهة الخصوم. ومن هنا أيضا،ً جاءت زيارة جورج بوش إلى المنطقة لحشد الحلفاء في مواجهة إيران وفرض حلول مجتزأة للقضية الفلسطينية من أجل تحويل نظر «العداء» الرسمي العربي من تل أبيب إلى طهران.
هذا السيناريو يعتمد بالدرجة الأولى على جرّ «الجهاديّتين» الشيعية والسنية إلى المواجهة، في موازاة تحريك الشارع السني الرسمي العربي في السياق نفسه، على أن تجري العملية برمتها وسط مناخ تقسيمي إثني وقومي عام (كردي ـ عربي مثلاً).
وهكذا خرجت إلى التداول مفردات «الهلال الشيعي» و«الأحلام الصفوية» و«الخطر الفارسي»، التي تبنّتها شخصيات ــــــ مفاتيح للمشروع الأميركي في البلاد العربية (ومنها لبنان)، وجرى تقديم إيران على أنها ممثّل الشيعة في مقابل السعودية التي تمثّل السنة، مع أن هذه المقارنة تقوم على أسس غير دقيقة وتعتمد التضليل في تصوير مشهد الصراع الحقيقي في المنطقة؛ وهو صراع بين إرادتين: أميركية وقوى ممانعة.
(بلغ مستوى التضليل حدَّ أن مناصري «فتح» يهتفون بأن «حماس» شيعية للدلالة على ارتباطها بإيران).

دور سلاح البحر

ميدانياً، يترافق الحراك السياسي مع ترتيبات بدأت فعلياً منذ حرب تموز 2006 ولا تزال مستمرّة. في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى تركيز الأميركيين على استعادة حلف شمال الأطلسي لدوره، ليس فقط في أوروبا والدول المنشقّة عن الاتحاد السوفياتي السابق، بل في البحر المتوسّط تحديداً ومياه الخليج. وقد جرى التنظير للدور الجديد لـ«الأطلسي» من خلال عدّة ندوات عسكرية مشتركة في واشنطن نهاية العام الماضي، خرجت بتوصيات مفادها أنّ سلاح البحرية هو الخيار الأنسب في السيطرة على مصادر الطاقة ومكافحة الإرهاب!
في هذا الإطار، يمكن فهم مشاركة القوّات الأوروبية (لدول أعضاء في «الأطلسي») في فرض «حصار» بحري قبالة الساحل اللبناني على شحنات الأسلحة المتّجهة إلى حزب الله، علماً أن معلومات صحافية تقاطعت وأفادت أن بوش ناقش، خلال جولته الأخيرة، مع رئيس الوزراء الإسرائيلي ايهود اولمرت احتمالات فرض «حصار» بحري على السواحل السورية أيضاً.
أمّا بخصوص إيران، فتجمع الدراسات والسيناريوهات الغربية الأخيرة على أن حشد أسلحة البحرية الدولية في مضيق «هرمز» هو العنصر الذي سيرجّح حسم الحرب المحتملة. لهذا يتخذ الحادث الأخير بين الزوارق الإيرانية والبحرية الأميركية أهميته في هذه المرحلة بالنسبة إلى المؤسسة العسكرية الأميركية. ولهذا السبب أيضاً اتخذ النقاش بشأن فرض حصار بحري على إيران حيزاً هاماً في نقاشات مؤتمر «هرتسيليا» الأخير.
وحالياً تتمركز بالفعل قطع بحرية كندية وبريطانية وهندية وباكستانية وأخرى حليفة للولايات المتحدة في مياه الخليج.
على أن محاولة تحويل البحر المتوسط تحديداً إلى «بحيرة للأطلسي»، استفزّت روسيا التي سارعت إلى «إحياء» أسطولها وإرسال قطع بحرية كبيرة إلى العمل وأعلنت إجراء مناورات مفاجئة، في خطوة لم تحظَ بالمساحة اللازمة من التغطية في الإعلام العربي. علماً أنّ الأنباء الإسرائيلية تتواتر عن قيام سفن حربية روسية بالمرابطة في ميناء «طرطوس» السوري خصوصاً، في تحدٍّ للمخطط الأميركي ــــــ الأطلسي الذي يسعى إلى تكريس وجوده البحري في المنطقة من خلال اتفاقيات مع الدول العربية.
وفي هذا المجال، وقّعت الكويت و«حلف الأطلسي» اتفاقية لتسهيل حركة المعدّات البحرية للأخير، بينما وافقت الإمارات على إقامة قاعدة بحرية فرنسية على أراضيها بعد زيارة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الأخيرة إليها. أمّا الأردن ومصر، فهما على «تفاهم وتعاون» بحري مع حلف «الأطلسي» منذ التسعينات.
* كاتب لبناني