كمال خلف الطويل *
أوّل ما التقيته، كان ظهيرة أحد من تموز 2001. المكان كان مركز دراسات الوحدة العربية، الداعي مديره الدكتور خير الدين حسيب. الخلفيّة ندوة المعارضات العربية... والمناسبة تولّي جوزف سماحة رئاسة تحرير صحيفة «السفير».
لفتني خفره البادي، وخصوصاً عندما توالت آيات المديح من بعض الحاضرين الذين عرفوه شخصاً أو قلماً. داعبته مستفزّاً: الحمد لله على نجاتك من «الحياة». أدرك للتوّ ما قصدت فغالبت ثقته بالنفس حياءه الفائض راداً بالقول: لقد أمضيت فيها ما مجموعه نصف دزينة من السنين فلم أتغيّر ولم أتبدّل... أليس كذلك؟
مرّت سنوات خمس قبل أن ألقاه من جديد ولكن في إطار مكاني وزمني سمح بالتفاعل المعمَّق بل والمسهَب. كان ذلك في الدار البيضاء عبر الأسبوع الأوّل من أيّار 2006.
ما بين اللقاءين كان قلم جوزف سماحة يصعد رويداً رويداً، وإن بثبات، ليكون واحداً من قلّة جمعت بين ملكة التحليل وقدرة الكتابة، في سبيكة أضحت زاداً راقياً للنخب العربية تنهل منه كل صباح وتفتقده في عطل نهاية الأسبوع و الإجازات.
عند بداية عام 2005 بدأت أشعر بأن جوزف قد غادر حتى الغلاف الجوّي للتحليل السديد إلى آفاق أرحب من التشخيص والتوصيف، بل والاستشراف. أخصّ بالذكر مقالات أيام العشر الأوّل من شباط التي أحسبها مادّة علمية لكلّ دارس صحافة جاد.
خريف ذلك العام سمعت عن «الأخبار» وعن اندراج جوزف في مشروع إنشائها. تملّكني إحساس طاغ أنّنا أمام ميلاد وليد سيكون صافي النسب والانتساب، ومن ثمّ فالسعي إلى الإسهام في رعايته فرض عين. مع ولوج عام 2006، كان بادياً أنّها إن هي شهور حتى يحين موعد الوضع.
في الدار البيضاء، كانت القلوب والعقول ــــــ معاً ــــــ على موعد. ودون أدنى مبالغة، فإنّ كيمياء فيّاضة من نوع حادّ شقّت بيننا صلات وصل.
وعبر أيام خمسة هناك لم يتوقّف حوارنا ــــــ على تقطّعه ـــــــ بشأن صعد شتى: «الأخبار»: هيكلها، كادرها، تمويلها، رسالتها، رعاتها، توزيعها، قوميتها، طاقمها «الواشنطوني»، ثمّ عبد الناصر والبعث والجزيرة والأسد وصدام والإخوان وآل سعود وهاشم وهيكل والزنج والكرد والأمازيغ والمارينز الجدد والصهاينة العرب وبورصات الخليج والحرب الأهلية اللبنانية... الأخيرة والقادمة، والحريري وتوابعه ومستقبل المشروع الإمبراطوري الأميركي والإسلام والصين وروسيا، بل حتّى من انتخب عن كركول الدروز أو مشغرة.
والأكيد أن خجل جوزف يتبدّد مع ضيق الحلقة المحاورة لينطلق عارماً دفّاقاً وبليغاً، مع وداد آسر وطيبة جلية.
في اليوم الثاني ذهبنا في الصباح ــــــ هو وعبد الإله بلقزيز وأنا ـــــــ إلى مقهى جميل لاحتساء الشاي، فإذا بي أُفاجأ بمسرّة أنه من ذوّاقة الموسيقى العربية الكلاسيكية وبامتياز.
كم كان منظرنا جميلاً ونحن ــــــ ثلاثتنا ـــــــ نترنّم بجمل موسيقية، بل ونغنّي ككورال صغير يحبّ الحياة ومباهجها الراقية. روى لنا عن حيازته نوادر من أشرطة الموسيقى العربية وأنها من أعزّ ما ملك.
مع آخر رشفة شاي، كان جليّاً أنّ قاسماً مشتركاً آخر يجمعنا بدفء. في ختام مهرجان الدار البيضاء. تواعدنا على اللقاء صيفاً في بيروت. وهكذا كان.
ذهبت إليه في مكتبه في «الكونكورد» لنجد نفسينا ونحن في لجّة من العناق والقبل، وكأنّ صداقتنا تعود إلى سنين ضوئية بينما هي ــــــ فعلياً ـــــــ في عمر الورود.
ما إن جلسنا حتى لفتت نظري صورة عبد الناصر على طرف المكتب فقلت: أإلى هذا الحدّ؟ قال: نعم وأكثر. كنت أنتقده بالكيلو والطن، لكنه فوق كل شيء وبعد أي شيء رجل في زمن عزّ فيه الرجال، وتعبير تاريخي عن أمّة تقدر على الوقوف والتقدّم. إن أُحبّه لشيء فهو لأنّه رمز كرامة وعزة.
تحدّثنا عن نشر مسلسل لمذكّرات الأحياء من صنّاع قرار سابقين، وعن ضرورة المزاوجة بين لبنانية «الأخبار» وعروبتها وما هي السبل لذلك.
كان كريماً بأن تلطّف بالطواف بي في كلّ أقسام الجريدة وتعريفي على مسؤوليها الأساسيّين بدءاً بالأستاذ إبراهيم الأمين وامتداداً إلى الأساتذة عبده سعد وخالد صاغية وعمر نشابة وهلا بجاني وربما آخرين.
تواعدنا على اللقاء ثانية على الغداء في غضون أسبوع لمزيد من الحوار، إذ أضحت الثقة طابع العلاقة، والصراحة سدرتها ومنتهاها.
بعد يومين شنّت إسرائيل حربها على لبنان فما عاد في وسعي العودة من دمشق ومن ثمّ اللقاء. هاتفته من دمشق في الخامس والعشرين من تموز لأجده صلباً كالحديد وواثقاً بأنّ الصمود هو الكلمة المفتاح.
في التاسع عشر من كانون الأول هاتفته من الدوحة محاولاً ــــــ وإن متأخّراً ــــــ إقناعه بالقدوم وحضور «مهرجانها». كان ميّالاً ولكن اللوجستيات أعاقت السبيل.
تحدّثنا بإسهاب عن صفحة الرأي ورأيي بشأن تطويرها وإغنائها، ثمّ تواعدنا على اللقاء في نيسان المقبل في إطار المؤتمر القومي العربي.
آخر ما دار هو رسالة كريمة منه في التاسع من شباط مع طلب الردّ الذي من أسف لم يصله في الموعد.
والحق أنني لحظة علمي بنبأ الرحيل صباح الأحد الفائت ردّدت مرات عديدة تعبيراً عفوياً ألحّ على خاطري بعنف: ليتني ما عرفته. كنت سأحزن على قلم ذي قامة باسقة وعلى سمعة صحافي ضرب المثل بعفته وطهارته وبكونه عصيّاً على الإفساد والابتياع، كما حال نماذج طاغية في الصحافة اللبنانية. كنت سأحزن على قوميّ عربي تلبّسه هاجس الوحدة والمقاومة والتقدّم والاستقلال، وعبّر عن هذا الهاجس بكلمات تجمع سحر العبارة مع تكثيف الفكَر وسلاسة التناول.
كنت سأحزن على مثقّف موسوعي وقف نفسه لقضايا أمته فعاش ومات عليها دون أن يبدّل تبديلاً. لكنّني الآن ــــــ وقد عرفته ــــــ أحزن مرّتين... بل وألتاع.
ها قد مضى رجل عقدنا عليه آمالاً كباراً في وقت يأخذون فيه لبنان إلى القاع. كان جبهة بأسرها وعلماً بمفرده.
لكن الثابت والأكيد أن أمّة أنبتت جوزف سماحة هي أمّة ولادة، وسيصعد من بعده إلى منصّته ــــــ العالية علوّ السحاب ــــــ كتّاب أشدّاء لا يشترون ولا يرهبون، يفضحون الطابق على أعداء هذه الأمّة الداخليّين منهم والخارجيّين ويحيلون حياتهم جحيماً كالسعير.
بهم سيفخر جوزف سماحة من أعاليه، وعبرهم سينال من كلّ من أراد بأمّته سوء المصير.
* كاتب عربي