هشام نفاع*
هناك من لا يزال يأخذ «وعد بوش بجنّة السلام» على محمل الجِدّ. فها هو الأمين العام للجامعة العربيّة يحذّر من «انهيار مبادرة أنابوليس» وكأنّها قامت أصلاً على أيّ دعائم حقيقية حتّى يصحّ نفاذ فعل الانهيار عليها ولو بلاغيّاً. لكن لا يمكن شيئاً لا يتعدّى وجوده الحالة المشهديّة بل الافتراضيّة أن ينهار، ولا أن يصمد أيضاً.
يصعب تحديد المُضاف الملائم لعبارة «سين أنابوليس». أيّ مضاف سيحلّ محل المجهول «سين»؟ أهو مبادرة، أم إعلان أم بلاغ أم تصريح أم وعد أم عهد أم مجرّد «سين» مجهول فحسب... ولا تعود الصعوبة في هذا إلى خطورة ما رشح عن ذلك اللقاء البرّاق، بل الى خوائه بالذّات. وبدوره، لا يعود الخواء الى فشل اللقاء، فقد صرّح الجميع واتفقوا مسرورين على أنه كان ناجحاً أيّما نجاح؛ بل إنّ الأمر يكمن في أنّ أولياء أمر «أنابوليس»لم يقصدوا من خلاله قطّ دفع، ولا حتى دفش، أيّ عملية سلام كانت، لا في الشرق الأوسط ولا حتى في البلقان أيضاً. كل ما في الأمر أن المشروع الإمبريالي الأميركي كان بحاجة إلى شيء من الديكور التجميلي فيما هو يتخبّط بفشله (المؤقّت؟) عراقياً ولبنانياً وفلسطينياً وإيرانياً (وفنزويلياً بالطبع، تحيّة لتشافيز ورفاقه!). وهنا لم يكن أجدى وأنفع وأسهل للهضم من وجبات «مبادرات السلام» السريعة. فكلّ ما تحتاج إليه هو قاعة ومنصّة وميكروفون أوّلاً، بعدها تأتي بما تيسّر من زعماء وصحافة وها لك مبادرة جديدة تدخل التاريخ من أوسع أبوابه. المشكلة أنه باب من النوع الدوّار فما إن تدخله وتكمل الدورة حتى تعود إلى الوقوف حيث كنت، في الخارج. هذا كل ما حدث في أنابوليس، فما الذي رآه السيّد عمرو موسى مما يعجز بصرنا عن الإحاطة به من انهيار يهدّد هذا الخواء الافتراضي؟
وبما أنه لا جمرك ولا ضرائب على الكلام، فليس مستغرباً أن جورج بوش كان أوّل من سمح بتلاشي وعده الكلامي بإقامة دولة فلسطينية قبل انقضاء العام الجاري والإعلان عن السلام كمسألة ستكون حينئذ من ورائنا. الدليل على ذلك هو كلام رئيس الحكومة الإسرائيلية المتكرّر الواثق بأنه سيصعُب إنجاز المنشود في وقته الموعود. وهو كلام لم يُلاقَ بأي تعقيب أميركي رسمي ولا حتى من النوع المُراد له تأدية وظيفة الاستهلاك ورفع العتب عند العرب. ولا يختلف هذا السلوك بالمرّة عن ردّ الفعل الأميركي، مثلاً، على تنصّل إسرائيل الرسمي من وعدها بوش شخصياً بتفكيك البؤر الاستيطانية العشوائية. فأي انهيار مستقبليّ سيفوق رُكام هذه الدائرة المقفلة؟
ثم إنّ حكومة إسرائيل تملك من الابتكارات السياسية البهلوانية ما يجعلها تحظى باحتلال مقعد متقدّم في سِفر غينيس الشهير. هاكم مثالاً: قبل أيام أعلن أولمرت أن قضية تسوية الحدود الإسرائيلية ــــــ الفلسطينية هي من السهولة بحيث يمكن طيّها دونما عناء تقريباً. وفي تزامن لافت أعلن المذكور أن القدس «قضية معقّدة» ومن شأنها إفشال أي تفاوض وهو ما يستدعي إرجاءها الى أجل غير مسمّى. خلاصة الكلام السالف هي التالي: لا حدود للقدس؛ أو أنّ القدس غير ذات صلة بالحدود؛ أو أنّه لا تماسّ فلسطينياً إسرائيلياً حدودياً في القدس، فحدودها إسرائيلية ــــــ أميركية فقط... من المثير كيف ستُرسم خارطة جغرافية لهذه البهلوانيات السياسية.
هنا يدخل العنصر الفلسطيني إلى هذه الصورة العينية. فالرئيس الفلسطيني محمود عباس يعلن في مقابلة صحافية مؤخّراً أنه «يثق» بالدور الأميركي في التأثير على إسرائيل. ويضيف: «نحن نقوم باستمرار بإبلاغ الجانب الأميركي بأن ما تقوم به إسرائيل من إجراءات، وأخطرها التوسّع الاستيطاني المتواصل في القدس وما حولها، إنما يهدّد عملية السلام ويفقدها مصداقيتها». لكن بماذا ستفيد كل البلاغات المأمولة في إزاء حقيقة أنّ من صادق على مخطّطات اسرائيل الرسمية بتأبيد الاستيطان، وفي القدس خصوصاً، من خلال الاعتراف بما يسمى «الكتل الاستيطانية الحيوية لأمن اسرائيل»، لم يكن سوى جورج بوش نفسه الذي تفهّم / تعهّد لرئيس حكومتها السابق أرييل شارون بدعم اسرائيل في هذا الموقف. (هنا يوجد معنى لعبارة «عهد بوش»!). سيقول قائل: ولكن يجب التعاطي بواقعية مع تركيبة وترتيبة القوى الدولية. حسناً، لنفترض هذا، ولكن كيف يمكن التوفيق بين القبول بواشنطن «راعية» تُرفع اليها بلاغات الشكوى، وبين حقيقة أنها تشارك في شطب قضية القدس سلفاً قبل التفاوض. ذلك أن «الكتل الاستيطانية» المقصودة التي يتفهّمها الرئيس الأميركي، تخنق القدس بالأساس، وتسعى إلى تأبيد المخطّط الاحتلالي ــــــ الاستيطاني (الذي أُنجز معظمه بالمناسبة) والمسمّى «القدس الكبرى».
أهذا كل شيء؟ لا. لأن حكومة اسرائيل حين تحاول دفع قضية القدس الى غياهب مستقبل مجهول تواصل تكبيل المدينة المحتلّة بالاستيطان بشتى منشآته: توسيع مستوطنات، جدران فصل، شوارع وأنفاق أبرتهايد مخصصة للإسرائيليين فقط، حواجز، منشآت عسكرية لشتى الأغراض ومنع المقدسيين في المدينة ومحيطها من بناء بيوتهم عبر سياسة حجب التراخيص والهدم، وقطع ضواحي القدس عن مركزها المديني. عملياً، أولمرت يقول لنا: انتظروا انتظروا ريثما نكمل احتلال القدس وبعدها سيكون لنا كلام!
حسناً، ما العمل؟ ليس هناك وصفات سحرية. ليس هناك سوى العودة إلى ثوابت القضية الفلسطينية المتفق عليها (بالحدّ الأدنى يجب القول)، حتى بثمن عدم التفاوض الآن. فلا يمكن الشعب الفلسطيني أن يخرج للمباراة على مصيره بتركيبة ناقصة. ولا بفريقين يتألف كل منهما من نصف عدد اللاعبين فقط. معنى الكلام أن أي تفاوض لا ينطلق من حالة فلسطينية موحّدة وطنياً هو مضيعة للوقت حتماً. فهو يتيح لحكومة اسرائيل تنفيذ شتى عمليّات التسلّل دون أن يقوم «الحَكَم» بإطلاق صافرة أو رفع علم. هنا بالضبط لا بدّ من إضافة التالي: فحكومة «حماس» أيضاً، وليس أبو مازن وحده، لديها «ثقة» ما بطرف ما. ليس ثقة بالولايات المتحدة، بل بمصر. المقصود هو ثقتها بإمكان إعادة صياغة ترتيبات حدودية متبادلة جديدة متَّفَق عليها مع مصر عند رفح. لكن القاهرة سارعت الى التوضيح بصراحة فائقة وفوراً على لسان مسؤول مصري بأن بلاده ستلتزم اتفاق الحدود المُبرم بوساطة أميركية وأنها ليست مستعدّة للإضرار بعلاقاتها مع اسرائيل والولايات المتحدة.
طرفا الانقسام الفلسطيني يطلقان حمامات الثقة نحو الخارج، فتروح هذه المسكينة ترفرف دون أن تجد يابسة تحطّ عليها. ولكن، ككل ثقة، لا يمكن عقد الآمال عليها حين تكون ثقة بالآخرين تنقصها ثقة بالنفس. وبما أن «النفس السياسية» الفلسطينية لا تزال مشطورة حالياً، فحتى لو تحقّقت هذه الأخيرة ستكون ثقة بنفسين، وهو ما تعذّر وجوباً. إذن فلنكرّر ما تحوّل الى مكرور ضروريّ: من العبث مواصلة اقتسام سلطة تحت الاحتلال فيما هدف نضال طرفيها المتفق عليه هو التخلّص من الاحتلال نفسه.
آن الأوان للخروج الفلسطيني من لعبة «أنتم الذين بدأتم الصراع». لأن الصراع الحقيقي يظلّ، ويجب أن يظلّ، مع الاحتلال. من العبث واللامسؤولية مواصلة تسليم الاحتلال بطن الانقسام الفلسطيني الرخو. فهو بطن سرعان ما قد يتحوّل الى نقطة مقتل.
وآمل أن يقنع هذا الكلام، أيضاً، مُستَسهلي الفرار الى الهوامش المريحة: اتهام هذا الطرف بالعمالة وذاك بالأصولية ومن ثم الانخراط بسلاسة في لعبة الانقسام والتقسيم بأجهزة تحكّم عن بعد. إن من يريد مصلحة الشعب الفلسطيني وقضيته يجب أن يقف على مسافة آمنة من عنصري الانقسام، والثبات في المركز: الإصرار على إعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية ورفض أي عذر يبرّر تغييبها. لا حاجة إلى إعادة اختراع العجَلة، فقد اخترعوها في الصين منذ ألفيّات.
* صحافي فلسطيني