ياسين تملالي
كتاب موسوعي عن سكّان الشمال الأفريقي الأصليّين
صدر كتاب «البربر» (1) لغابريال كامبس أوّل مرّة في عام1980، وعُدَّ آنذاك تتويجاً لمسيرة علميّة طويلة تمخّضت عن العديد من المؤلّفات المتميّزة عن الشمال الأفريقي (2). وها هو يَصدر اليوم لا في بلد كاتبه فرنسا فحسب، بل أيضاً في بلدان مغاربية ثلاثة: تونس والجزائر والمغرب الأقصى.
ويُعَدُّ «البربر»، أحد المراجع الكلاسيكية عن الشعب الأمازيغي، أحد أعرق الشعوب المتوسّطية. أمّا غابريال كامبس (1927 ــــ 2002) فهو أحد أعلام الدراسات الشمال ــــ أفريقية البارزين. ولد في الجزائر إبّان الاستعمار الفرنسي، وكرّس حياته العلمية لتاريخ المنطقة القديم. ومن إنجازاته المشهودة «الموسوعة البربرية» التي لا تزال بعد وفاته تصدر تحت إشراف أحد تلامذته.
ويرى عالم الألسنيات الجزائري، سالم شاكر، في توطئته للكتاب، أنّ تميّز مؤلّف «البربر» في الأوساط الجامعية المختصّة في «الدراسات الشمال ــــ أفريقية» يعود إلى ما قام به من توحيد لمعارف مستقاة من موارد شتّى (الألسنيات، الإتنولوجيا، الأنتروبولوجيا...) وصياغتها في أطروحات متناسقة، أهمّ ما يطبعها عدم ادّعائها صفةَ الحقيقة النهائية. يقول سالم شاكر: «بالرغم من أنّ اختصاص غابريال كامبس كان علم ما قبل التاريخ، إلا أنه لم يترك جانباً يتعلّق باختصاصه إلا واهتم به. لقد كانت كل حياته جهداً متواصلاً للاستفادة من مجالات معرفية أخرى ومدّ الجسور نحوها، ومحاربة الموانع العلمية والزمنية التي كانت تقسّم العالم الأمازيغي والدراسات الشمال ــــ أفريقية أيّما تقسيم».
ليس «البربر» إذاً تأريخاً للشمال الأفريقي، بل عمل موسوعيّ هدفه، كما يقول غابريال كاِمبس، هو «البحث عن الديمومة البربرية» عبر العصور: «لم تكن كلّ هذه القرون الطويلة عديمةَ الاسم. لقد وُجد هنا ــــ كما في أماكن أخرى من العالم ــــ الكثير من الرجال والنساء الذين وَسَموا الزمان بميسمهم. إلا أن التاريخ ــــ بحكم أن من كتبه هم «الغرباء» الوافدون ــــ لم يحتفظ لهم بالذكرى التي يستحقّونها. إنّ مقصدي من هذا الكتاب هو الكشف عن هذه الديمومة الضائعة، وإنارة الوجوه التاريخية الأمازيغية المهملة».
ويبحث الجزء الأوّل «أصول الشعب البربري». ويروي بالاعتماد على الحفريات والمصادر الأنتروبولوجية والتاريخية كيف استوطن هذا العنصر المتوسّطي الشمال أفريقي واختلط فيه بعناصر بشرية أخرى، وكيف زحف على الصحراء الكبرى وتغلّب فيها تدريجاً على العنصر الأسود وفرض عليه لغته وعاداته بعدما أخضعه طويلاً لنير الاستعباد. ويتطرّق الجزء الثاني تحت عنوان «شعب على الهامش» إلى تاريخ الأمازيغ، بدءاً بالعصور «البروتو ــــ تاريخيّة» حتى بداية الاحتلال العثماني (القرن الـ17)، وهو الحدث الذي وضع حدّاً، حسب قول الكاتب، لـ«حقبة الدول الأمازيغية».
ويدرس الجزء الثالث تعامل الأمازيغ مع ثقافات الشعوب التي احتلّت الشمال الأفريقي عسكرياً، كالرومان والوندال، أو استوطنت فيه، كالعرب والفينيقيين، مؤسسي قرطاج القادمين من شرقي المتوسط. وكانت أهم عمليات التثاقف في المنطقة تَعرُّب جزء من الأمازيغ إثر غزو قبائل عربية بدوية للمغرب الإسلامي في القرن الـ11 الميلادي. ويحلّل كامبس هذا التعرّب باستفاضة، مُلحّاً على ما مثّله من تحوّل جوهري في التاريخ الأمازيغي، وكاشفاً النقاب عن ميكانيزماته المعقّدة (التحالفات السياسية بين قبائل أمازيغية وأخرى عربية وافدة...). كما أنه يفسر بعوامل اقتصادية أساساً (تشابه نمط حياة البدو العرب مح نمط حياة بعض السكان الأصليين) وتبنّي الأمازيغ شبه التام للعربيّة في تونس وليبيا، وتحوّلهم في الجزائر والمغرب إلى أقليات لغوية تقطن جبال الشمال وبعض الجيوب المعزولة في عمق الصحراء.
ويهتمّ غابريال كامبس في الجزء الرابع بديانات الأمازيغ عبر التاريخ، مركّزاً على السمات التي طبعت اعتناقهم المسيحيّة والإسلام. ويمكن القول إنّ تحوّل سكّان شمال أفريقيا الأصليّين إلى هاتين الديانتين كان في الكثير من الأحيان غطاءً لرغبتهم في الانعتاق السياسي والاقتصادي. هل من تفسير آخر، سوى الرغبة في التخلّص من المحتل وحلفائه، لتجاوب الأمازيغ مع الهرطقة الدوناتية (المنشقّة عن الكنيسة الكاثوليكية) واتّباعهم المذهبين الخارجي والشيعي الإسماعيلي وقيادتهم حركات إصلاح راديكالية للإسلام السنّي، كانت أهمها الحركتان المرابطية والموحّدية؟
ويمكن اعتبار الجزء الخامس والأخير خاتمة مطوّلة للكتاب، عنوانها «الاستمرارية البربرية». يقول غابريال كامبس: «لم ينجم عن تعرّب غالبية الأمازيغ تثاقف تامّ، فقد احتفظ سكّان شمال أفريقيا في لغتهم وعاداتهم وفنونهم بالكثير من الميزات التي كانت تطبع حياتهم قبل قدوم العرب وانتشار الإسلام». ومن مظاهر هذه الاستمرارية الثقافية، الكتابة الأمازيغية المسمّاة «التيفيناغ» و«فن يتحدّى القرون» فيه الكثير من الشبه بالفن البروتو ــــ تاريخي للشمال الأفريقي، كما كشفت عنه الحفريات. أما أبرز تجليات الاستمرارية البربرية على المستوى السياسي فهو عدم اقتران ممارسة السلطة بمنظومة الدولة. ففي غياب الدولة المركزية، كان الأمازيغ يعيشون في «جمهوريات قروية» لا تزال بعض مؤسّساتها قائمة إلى حدّ الآن، كـ«مجالس القرى» في المنطقة القبائلية بالجزائر.
(1) الأرجح أن الإغريق هم من أطلق اسم «البربر» على «الأمازيغ»، سكان شمال أفريقيا الأصليين، وقد حذا حذوهم في ذلك الرومان والبيزنطيون ثم العرب.
(2) من هذه المؤلّفات «عن جذور البربر: ماسينيسا أو بداية التاريخ»، و«البربر على هامش التاريخ»، و«الحضارات البروتوتاريخية لشمال أفريقيا والصحراء الكبرى».
* صحافي جزائري



العنوان الأصلي
Les Berbères
الكاتب:
غابريال كامبس
الناشر
actes sud