نسيم الخوري *
«لن تنتهي القصّة»، قال الشاعر اليهودي فينا حاييم، «لأنّ الإسرائيلي يولَد وفي داخله السكّين الذي سيذبحه». وهو بذلك يسجّل تناقضاً بين عنوان قصيدته وشطرها الأوّل، لكنّ القصّة انتهت في نبرة السيّد حسن نصر الله وقسماته، وهو يودّع قصيدة القائد عماد وأغانيه الملفوفة بالأصفر المنسوج من وزّال وعر طيردبا وقرى الجنوب، والذي به تشبّه البرق السرّي والريح الهائمة في الكثير من الصفات الغامضة.
لن تنتهي القصّة؟
طبعاً، لن تنتهي مع أكوام مستوردة من البشر المتباعدين في اللسان والجنس والثقافة، أتوا من أكثر من مئة بلدٍ وهم يتكلّمون ما يفوق الثمانين لهجة ولغة، واغتصبوا أرضاً فلسطينية غريبة عنهم. وبعدما شتّتوا أهلها، راحوا يحشرون ذريتهم فيها من دون جذور فعلية إلّا في الأساطير الخاصّة بهم. وإذا ما أضفنا هذا الكلام إلى الأسطورة اليهودية التي تقول إنّ «السيف والتوراة نزلا من السماء معاً»، وبحيث جاء ترتيب السيف قبل كتابهم، كما نلحظ، يمكننا معاينة طبيعة تلك الدولة العائمة على شهوة سفك دمائنا وهي قائمة في ما بيننا، كما يمكننا فهم مستقبلها ومستقبل «السلام» مع هؤلاء الذين جعلوا إلههم يحارب عنهم: «فالربّ يقاتل عنكم وأنتم تصمتون» (يش: 10 42، 23:3).
كيف تنتهي القصّة، وهم لا يلتمسون سوى سفر يشوع أو سفر المذابح الذي يؤسّس بشكل دائم لمجتمع قائم على العنف والإرهاب والنزوع إلى القتل والغدر والدمار والاغتيالات.
تنتهي القصّة أم لا؟
معضلة تاريخية كبرى تقطن هذا السؤال، وصولاً إلى أقاصي الذرية المقاومة جيناتها والتي لم تصل بعد إلى الأرض، فكيف هي بالنسبة لمن هم قائمون فيها؟
وفي الإجابة عن هذا السؤال، لن نستعيد كلام نصر الله في الحرب المفتوحة على العدوّ الإسرائيلي الذي شاءها مفاجئة مفتوحة، وبأسلوب من الغدر، وفي المكان الذي يتجاوز بكثيرٍ حدود لعبة الصراع والقتال. ولن نكرّر معاني الملاط والصمغ البشري وأبعادهما في شدّ عضد مقاومي الأمّة، وكيفية تفريخ دم عماد أغنياتٍ في العروق وانتشارها مثل زهر اللوز والجنارك يسريان على رصيفٍ دمشقي بارد، ولكننا نتوقّف عند كلام دايفيد بن غوريون مؤسّس إسرائيل الذي اعتبرها «دولةً محكومة بالسقوط والزوال إذ تهزم». هذا كلام اقتبسه السيّد حسن من العبّ الإسرائيلي، وأعلنه في مناسبة ثخينة الجروح حوّل فيها تلميح إسرائيل بالنصر في الاغتيال الذي هو أبلغ من تصريح إلى بداية النهاية الفعلية لدولة العدو!
ليس مهمّاً، في الهزّة التي أحدثتها الكلمة الواحدة للأمين العام لحزب الله في مجمع سيّد الشهداء، الالتفات إلى الاستنفار الأمني والعسكري والرعب في زوايا الأرض، ولا الالتفات إلى حاخامات إسرائيل الذين راحوا يهمّون بركوب الطائرات كي يرقوا أرض إسرائيل بالماء المصلّاة، ويبعثوا بعيّناتها لرقي كنائسهم ومقارّهم في تذكار بقع الدماء على أبوابهم في العهد القديم وقد حيّروا الله. وهو التقليد الذي أخذته عنهم المسيحيّة في ما يعرف بالتكريس لبيوت المؤمنين بالماء يرشّه الكهنة بأغصان الزيتون. وهنا إشارة إلى أنّ مقاومي حزب الله، ولشدّة تجذّرهم في وطنهم وكرامتهم وإيمانهم بالله وحقّهم في الحياة أعفوا أنفسهم أساساً من التقيّد بتأريخ معين لنشأتهم، ووضعوا مسألتهم بين يدي الله أي قبل أن يكون العهد قديماً أو جديداً وفي حالة فصل أو التصاق.
الأهمّ من هذا كلّه القراءة الجيّدة لنصوص صهيونية لفهم كلام السيّد بأن القصّة قد تنتهي!
نعم تنتهي!
لم يقلها بن غوريون وحسب، ورددها السيّد حسن نصر الله، بل قالها أيضاً ناحوم غولدمان رئيس المنظمة الصهيونية العالمية والذي اعتُبر من مؤسّسي المؤتمر اليهودي العالمي الذي مهّد لقيام إسرائيل دولة الحماقات. قال في كتابه «إسرائيل إلى أين؟» الصادر عام 1975 والذي ترجمته إلى العربية بالتعاون مع طلّابي في الجامعة: «سيكون لإسرائيل، هذه الجزيرة الدموية وسط العالم العربي والإسلامي حظّ ضئيل في البقاء. إسرائيل خطيئة في الأساس والخطيئة تجرّ دوماً إلى خطيئة أكبر... لقد غرب عن أذهاننا القوّة المنتظرة التي سيتمتّع بها العرب والمسلمون، وغرب عن بالنا أنهم كانوا أكبر القوى في العالم، غزوا حتّى قسماً من أوروبا، مبدعين الإسلام الديانة الأكثر انتشاراً في العالم. إنّ الزمن يعمل لمصلحتهم. وإنّ دولة إسرائيل منعزلة وهي تركض نحو موقف مزعزع، بكلّ معنى الكلمة، يجعلها مهدَّدة بالزوال والانتهاء إن ثابرت على الدم والتوسّع».
وسواء انتهت القصّة أو لا، ومع ما يحمله هذا السؤال من مخاطر وآفاق مفتوحة على نضال طويل ومكلف، فإنّ الأهم هو إنهاء قصّة لبنان الداخلية، والانتباه إلى مقاومتنا، وهي أوّل مقاومة في تواريخ الشعوب والدول تجلس إلى الطاولة ليحاورها أهلها وبعض سياسيّيها حول مستقبلها ومستقبل سلاحها ويرتفع الحوار إلى درجات سلبية واتهامات وإهانات وتجريح وتحدّيات لجرّها إلى المستنقعات الداخلية. الحوار يرتفع إلى مرتبة الضرورة المقدّسة والملحّة عندما يندرج على الألسنة الأصيلة لا المستعارة المفروضة من خارج والضاغطة في مقدّسات، ومع هذا كلّه شبع المتحاورون من بلع الريق المزروع بالسيوف، لأن لبنان واقف على أبواب فتنة مدبّرة. فتنة ما زالت ماثلة تقرع الأبواب منذ مقتل الرئيس رفيق الحريري الذي ما زال دمه طريّاً يصعب يبوسه في جروح اللبنانيّين، كلّ اللبنانيّين.
متى تنتهي قصّتنا الداخليّة؟
لم يذكر التاريخ أنّ أهالي بلاد الغال تحاوروا على سلاح أبنائهم الذين استبسلوا في مقاومتهم ليوليوس قيصر بعدما غزاهم، ولا خجل أهالي البروتون بسلاحهم الذي بقي مشهوراً في وجه الرومان حتى تحرير بلادهم. وما زال الهنود الحمر يقاومون الولايات المتحدة نفسها بقسماتهم الغاضبة التي تملأ الشاشات ولم يفاوضهم أهلهم على سلاحهم ومثلهم الإيرلنديون الذين لم يجرؤ أحد من أبنائهم على مفاوضتهم بالرغم من سلاحهم المسلول أبداً في وجه بريطانيا.
لم نجد إشارة واحدة في الموسوعات بأنّ أثينا الرسمية تحاورت مع مقاومي «منظّمة إيلاس» اليونانيّة في كفاحهم المشرّف في وجه ألمانيا، ولم نعثر على حوار واحد بين أهالي الباسك في مقاومتهم لإسبانيا، كما لم يعقد الفيتناميّون حواراً للنظر في مستقبل مقاومتهم لأميركا. هل نتصوّر ماو تسي تونغ يحاوره أهله من الصينيين في مقاومتهم العظيمة لليابان؟ بل هل نتصوّر جزائرياً واحداً فكّر في محاورة مقاومي الجزائر على مستقبلهم وسلاحهم في وجه الاحتلال الفرنسي؟
تطول الأمثلة إلى ما لا نهاية حيث قاوم الشيشان روسيا القيصرية والشيوعيّة طويلاً، وقاومت آسيا الوسطى ضدّ الروس، وقاوم أهالي أفغانستان ضدّ الاتحاد السوفياتي، والفلسطينيون يقاومون منذ 58 عاماً، إلى المقاومين في العراق، إلى التجربة الفرنسية الرائدة في مقاومة الاحتلال النازي. وبالرغم من الوحدة الأوروبية، وسقوط الجدران، وعودة اللحمة الفرنسية الألمانيّة، لا يمرّ يوم إلّا نقرأ فيه كتاباً أو مقالاً أو نرى فيلماً أو ندوة أو معرضاً أو نشاطاً ينعش فيه الفرنسيون أجيالهم المتواترة، وباستمرار، بعظمة المقاومة الفرنسية ودورها في تاريخ فرنسا وتحريرها من الاحتلال الألماني.
وما يدهش المتابع هذا الالتصاق الفرنسي بثقافة المقاومة، فعند نبش اسم عميل فرنسي سرّي هرم على حافة القبر أو متواطئ متخفّ، أو عند فتح ملفّ قذر غير وطني إبّان الاحتلال، تتحوّل فرنسا بيمينها ويسارها وأحزابها المتصارعة الكثيرة إلى شخص واحد وصوت واحد وموقف واحد اسمه فرنسا المقاومة، والكلّ متجذّر بها وبتاريخها ويكنّ لها الوفاء والإجلال أكثر مما يكنّه لكنيسة نوتردام. فرنسا مسكونة بشمس المقاومة حتّى آخر الأجيال!
أين بعض السياسيّين في لبنان يكفّون عن التسجيل، ونقولها تكراراً، إنهم أوّل شعب في التاريخ يفاوض مقاومته ويحاورها في زمن تأبى الشمس فيه أن تشرق إلا من الجنوب!
* كاتب وباحث سياسي