ورد كاسوحة *
قد يكون من المفيد حالياً لكلّ المنتسبين إلى جبهة الممانعة للمشروع الأميركي في المنطقة استعراض ما يكتب في الصحف والدوريات بشأنهم وشأن ممانعتهم، سواء منها تلك الديموقراطية ذات الطموح النهضوي والحداثي كما هي حال بعض اليسار وبعض القوى القومية والإسلامية المتحالفة معه، أو تلك السلطوية الرديئة، صاحبة الباع الطويل والخبرة الاستثنائية في القمع والإقصاء والتهميش، وهذه ممارسات امتازت بها دون سواها أنظمة البعث في كل من سوريا والعراق.
والحال أنّ دعوة فرعي الممانعة أعلاه إلى مطالعة التحليلات الصحافية تلك مردّها أساساً الجذر «النقدي» المفرط الذي تصدر عنه هذه التحليلات، وهي في معظمها تعود إلى منتسبين سابقين إلى أحد فرعي الممانعة، آثروا حفاظاً على مكانتهم «النقدية» و«المستقلّة» و«غير المنحازة» إلى طرف إقليمي دون الآخر إخلاء مواقعهم السابقة في جبهة «اليسار البائد»، وخصوصاً بعدما رأوا كيف عصفت رياح حروب الخليج الثلاثة والفورة النفطية بزملائهم، وأجبرتهم على الانتقال من موقع التغيير والوعي النقدي إلى مواقع التبرير والالتحاق بالسائد النفطي المبتذل.
وإذا كان الموقع الجديد لبعض هؤلاء يفترض حكماً تغييراً راديكالياً في مواقفهم الفكرية والسياسية، فهذا لا يعني على الإطلاق التقليل من شأن قدرتهم المستمرّة على الجدل والمماحكة وتحليل الظواهر السياسية، وإن أتت قدرتهم هذه المرة مفتقدة العمق النقدي والأخلاقي الذي كانت تنطوي عليه سابقاً.
ولعلّ أكثر ما غفل عنه أولئك المنظّرون في نقدهم لظاهرة الممانعة أنهم بمنهجهم الناقض ذاك للرافعة المعرفية التي تنهض عليها تلك الممانعة إنما يزوّدون هذه الأخيرة وأفرقاءها، وخصوصاً بفرعهم الديكتاتوري السلطوي بزاد «معرفي» و«نقدي» غني، قد يسهم في تحسين الأداء البائس لذلك الفرع، لجهة إشعار أنظمته سواء في سوريا أو في إيران بضرورة الانفتاح أكثر على الداخل، وإشراكه في مناهضة المشروع الأميركي من موقع الندية المطلقة، فبدون هذه الصيغة الاشتراطية لا يمكن ممانعة حقيقية أن تقوم أو تقف على قدميها.
ثمة أمر آخر يمكن أن يسجَّل بخلاف ما يعتقده هؤلاء اليساريون «التائبون» لمصلحة الممانعة بفرعها اليساري هذه المرة، وهو قدرة هذا اليسار الممانع والجديد على استقطاب الاهتمام وإثارة الجدل حوله أينما حلّ وكيفما حلّ، وما ظاهرة تمحور معظم كتابات منظّري الليبرالية الجديدة حول طبيعة هذا اليسار الصاخب إلا مصداق على ما نذهب إليه من توصيف لهذا الخيار الممانع، إذ ما من تيّار سياسي عربي استطاع في الحقبة التي أعقبت غزو العراق واغتيال رفيق الحريري أن يستحوذ على هذا القدر من الاهتمام الإعلامي والصحافي، سواء لجهة نقده وذم منظومته الفكرية بالكامل، أو لجهة الثناء عليه وعلى ما يمثّل من طموح نقدي تجاه الإمبريالية الأميركيّة والديكتاتوريات العربية في آن معاً.
أيضاً وأيضاً يمكن أن يؤخَذ على هذه الكتابات ابتذالها لمفهوم الليبرالية الذي اعتنقه أصحابها مؤخراً، وذلك عبر قصره في معرض ذمها ـــــــ أي الكتابات ـــــــ لليسار الممانع على الناحية السياسية فقط، من دون أن تأخذ في عين الاعتبار أنّ الامتداح المفرط لمزايا الليبرالية السياسية (الحريات العامة، حقوق الإنسان، حقوق المرأة، الديموقراطية البرلمانية، تداول السلطة...) لا يعفي هذه الليبرالية من أخذ الشأن الاقتصادي والمعيشي مأخذاً جدياً وحقيقياً، وخصوصاً لجهة اندثار نموذج دولة الرعاية وتزايد التفاوت الطبقي والإفقار المنظَّم والحرمان الاجتماعي ...، إذ كيف يمكن دولة ما أو لحزب ما ادّعاء الليبرالية المعروف عنها في نسختها الكينزية إيلاء الشأن الاجتماعي أهمية قصوى في ما بات يُعرف تاريخياً بدولة الرفاه والرعاية الاجتماعية، فيما تذهب سياسات هذه الدولة وذلك الحزب تماماً في عكس ما تزعمه لنفسها، أي باتجاه المزيد من تكديس الثروات في أيدي القلّة على حساب الكثرة الباقية من الفقراء ومتوسّطي الدخل، ما يعني عملياً الإعطاب التام لفكرة العدالة الاجتماعية. وهذه الأخيرة هي النسخة الأصلية لمفهوم دولة الرفاه والرعاية، التي فتن بها أخيراً منظّرو الليبرالية الجديدة، وراحوا يعيبون على رفاقهم «السابقين» في «اليسار البائد» إشارتهم إليها بمصطلحات وتعابير «خشبية» و«بائدة» من قبيل: التفاوت الطبقي، العدالة الاجتماعية، التوزيع العادل للثروة، الإفقار المتمادي، الليبرالية
المتوحّشة...
وإزاء هذا الخواء الليبرالي النفطي الهوى لا يملك هؤلاء المتلبرلون الجدد حجّة على أقرانهم الممانعين سوى تعييرهم بالتحالف غير المنطقي وغير المفهوم مع الأصوليات الدينية والديكتاتوريات العسكرية، في ما يشبه الغمز من قناة سوريا وإيران وحزب الله، أي مثلّث «الشر» و«الإرهاب» بحسب فتوى جورج بوش ومحافظيه الجدد في أميركا ولبنان والعراق والسعودية...
ولا ينفع كثيراً في هذا الصدد «تحييد» بعض قوى الممانعة اليسارية في لبنان وسوريا نفسها عن هذا التصنيف الديماغوجي الأجوف، طالما أنّ هناك في المقلب الآخر من يصرّ بمنتهى الخبث وسوء النية على أخذ الصالح بالطالح، أي أخذ الجميع جملة واحدة، حتى لو كان عدم الانسجام بين أطراف هذا «الحلف» المأخوذ قسراً يبلغ مبلغاً تاريخياً، كتاريخ العلاقة المأزومة والمتوترة مثلاً بين النظام السوري والحزب الشيوعي اللبناني.
لكن هذه المقاربة «الليبرالية»الخبيثة لحلف الممانعة «المزعوم» لا تعفي أطراف هذه الممانعة من المسؤولية عن التقصير في التسويق لممانعتهم على نحو أفضل وأكثر جدوى، أي على نحو يتيح للرأي العام العربي والعالمي تبيّن الخطل المتأتّي عن الجمع ما بين أطراف لا تجتمع عادة، ولا يمكن أمراً ما أو لجهة ما حملها على الالتقاء، ما لم يكن هذا الأمر على درجة من الأهمية تؤهّله للارتقاء إلى مرتبة الحدث الجلل. وهذا ما يمكن تبيّن معالمه بوضوح في صورة الهيمنة الأميركية الجديدة على الشرق الأوسط. هذه الهيمنة التي «وحّدت» ما بين «الأضداد»، وجمعت ما لا يمكن جمعه. فصار لزاماً على المرء إذ ذاك ألا يستغرب كثيراً حينما يرى أعلام حزب الله الشيعي تتداخل مع أعلام الحزب الشيوعي اللبناني أو حركة الشعب وهما التياران الأكثر علمانية بين التيارات السياسية اللبنانية، أو حين يسمع مسؤولاً شيوعياً لبنانياً يندّد بالحصار السياسي الأميركي المضروب حول سوريا...
وعلى أيّ حال ليس في هذا السلوك أي حرج بالنسبة إلى أطياف اليسار الممانع، ما دامت تحافظ على موقعها المستقل وموقفها النقدي ضمن هذا الائتلاف، بعيداً عن أي تبعية أو ارتهان لطرف ما إقليمي أو دولي. وأهمية هذا السلوك تغدو مضاعفة حينما يعاين المرء الادعاءات التي يسوقها منتقدو جبهة الممانعة في معرض تبريرهم لحال التبعية التي باتت عليها بعض الحركات اليسارية المنشقّة وذات التوجه الليبرالي الجديد. والتبعية هنا إنما هي لتحالف الإقطاع الطوائفي والمال الريعي المندرج كما هو معروف في إطار سياسة الولايات المتحدة الأميركية ونهجها الإمبريالي في المنطقة. ذلك أن البناء المفاهيمي الذي يستند إليه نقاد الممانعة في تسويقهم لفكرة استحالة الجمع (بالنسبة إلى الممانعين) ما بين العلمانية والأصولية أو ما بين الديكتاتورية والديموقراطية سوف يؤول حتماً إلى التهاوي بمجرّد إلقاء نظرة على ماهيّة الحلف المناهض للممانعة (وهو الحلف الذي ما برح هؤلاء الليبراليون ينظّرون له ويسوقون لمشاريعه)، والسبب ببساطة أنّ هذا الحلف الأنتي ــــــ
ممانع أجدر بكثير من حلف الممانعة بالتوصيف القائل: جمع ما لا يمكن جمعه، إذ هو كناية عن مزيج «فريد» وسوريالي من «الليبرالية» الأميركية المتوحّشة والعنصرية الإسرائيلية التوسّعية و«الاعتدال العربي» المفرط في رجعيته وأصوليته، سواء كان هذا «الاعتدال» سعودياً أم مصرياً أم أردنياً أم لبنانياً...
يجدر بالمرء والحال كذلك دعوة بعض كتاب الرأي في الصحف العربية، الخليجية منها وغير الخليجية إلى ايلاء ظاهرة الممانعة اهتماماً، يتعدّى المنطق المبتذل في توسّل نقدها لنقضها ونقض كل ما ترتكز عليه من مقومات معرفية وذات جدوى، ففي ذلك افتئات ليس على الممانعة ومنظّريها فحسب، بل على نقّاد الممانعة أنفسهم، واستطراداً على قدرتهم «الفائقة» على التنظير والتحليل واستقراء الظواهر، إذ ما الجدوى من إسالة الحبر وإهدار وقتهم ووقتنا في إثبات ما لا يمكن إثباته، ودحض ما لا يمكن دحضه. وربما تكون هذه المطالعة مناسبة للقول لهم: الممانعة ليست نظرية في طور الإنفاذ، بل هي أمر واقع ومفرط في واقعيته، فتعاملوا معها على هذا الأساس.
* كاتب سوري