سعد الله مزرعاني *
تطلق السجالات والمفاوضات الدائرة بين الأكثرية والأقلية النيابيّتين انفعالات حادّة لدى أعداد ليست بسيطة من اللبنانيّين. تغدو هذه الانفعالات أكثر حدّة عندما تأتي سجالات وصراعات طرفي النزاع مصحوبة بالتوتّرات الأمنيّة. شبح الحرب الأهليّة، أي تحوّل النزاع السياسي الحالي إلى نزاع عسكري، يلهب أعصاب أعداد أكبر من اللبنانيّين.
في بيئة من بيئتي النزاع، تطرح أسئلة من نوع:
- لماذا لم نحسم في الوقت المناسب؟ - إذا كانت الولايات المتّحدة معنا، ومعنا أيضاً الغرب والعرب، ومعنا قبل ذلك وبعده أكثرية اللبنانيين، ولم نتمكّن من الحسم، فمتى سنتمكّن من ذلك؟
تداعيات هذا الشعور، في جانب منها، هي في تفشّي شيء من الإحباط أو الكثير منه، وفي الابتعاد عن السياسة والسياسيّين، وفي تحضير جوازات السفر والهجرة...
وفي البيئة الأخرى تتفاعل المسألة بشكل متباين في الشكل، متماثل في المضمون:
- هل يستحقّ «وزير إضافي» تعريض البلد للشلل، وحتى للخراب الاقتصادي والأمني، وصولاً الى الاقتتال؟ - لماذا إدخال السلاح في النزاع الداخلي، وماذا يريد حزب الله أو الجنزال ميشال عون؟
- ماذا تريد سوريا من لبنان؟ وهل سنستمرّ ساحة لفعل الآخرين، دون مراعاة مصالح شعبنا، وخصوصاً حقّه في الحياة وفي الاستقرار وفي الازدهار؟
وقبل أن يلتبس الأمر في الذهن إزاء استعادة مشهد (قديم أو جديد) لمئات الآلاف، من هنا أو هناك، في حالة احتشاد مستمرّ ومصمَّم، فنحن نتحدّث هنا، عن جزء من اللبنانيّين. نحسب أنه رغم ذلك، يزداد عدده ويزداد تذمّره. هذا الجزء، كما أشرنا آنفاً، تتقارب مكوناته، رغم تباعد سابق، على طلب «الحلّ»! إنّه يضيق بكلفة المواجهة والصراع الراهنَين على واقعه الحياتي، بالمعنى شبه الشامل للكلمة. إنّه يستشعر الخطر على ما يبقى لديه من مقوّمات في منظومة حياته ومعيشته وعمله وأسرته... إنّه يستعيد كوابيس الحرب الأهلية السابقة، أو (و) يرعبه المشهد الدموي العراقي في كلّ مآسيه ومجازره...
يمكن القول إنّنا هنا أمام انفعالات، هي غالباً، ذات منشأ بورجوازي صغير (استعادة سجالات لينين، أو بعضها حول هذا الموضوع، في ظروف بدايات القرن العشرين، ليست بدون فائدة). هذا التوصيف يردّ جذر بعض المسائل الرئيسية إلى العامل الاجتماعي (الطبقي والثقافي بالمعنى الشامل لخصوصيّة التطوّر السياسي والاجتماعي للشعب اللبناني، وخصوصاً منذ الاستقلال حتى اليوم).
هذا التفسير يتضمّن فيما يتضمّن، انطواء هذه الحالة على عدم الثبات، والتأرجح والصعود والهبوط، والانتقال من الموقع والموقف الى ما يمكن أن يكون نقيضاً لهما...
ومع ذلك، ورغم الطابع الموضوعي لهذه الظاهرة، وخصوصاً في ظروف الأزمات الكبرى والتوقّعات الخائبة والانعطافات الحادّة، فإنه لا بدّ من نقاش بعض ما يتّصل بها من استنتاجات. وسبب النقاش يتعدّى الضيق من بعض الضغوط اليومية التي تصادفنا في حواراتنا: في البيت، وفي العمل، وفي الشارع، وفي كلّ مكان... إنّه محاولة لوضع بعض الأمور في نصابها من جهة، وفي الإلحاح على أمور أخرى ما زالت بدون نصاب، من جهة أخرى!
في الجانب الأول، يجب القول إنّ «الحلّ» الجاهز والسريع و«الفوري»، لا تقرّره الرغبات الفردية، ولا حتى الرغبات الأكبر التي تحتشد وراءها قوى فاعلة محلية وعربية ودولية. هذا طبعاً في ظروف التوازن، كما هو الأمر عليه في لبنان المترابطة والمتداخلة، حالياً، صراعاته وتناقضاته وأزماته، مع تلك القائمة في المنطقة، أكثر من أي مرحلة سابقة.
إنّ إسقاط الرغبات على المواقع لن يبدّل في طبيعة الأمور، رغم أنّه لا ينبغي أبداً التقليل من تأثير فعل هذه الظاهرة في بعض المحطّات الكبيرة (في انتخابات أو استفتاءات محدودة أو شاملة). و«الحلّ» مطلوب بالفعل. وتأجيله قد يدفع الأمور نحو الأسوأ. أمّا عدم بلوغه مطلقاً، فقد يؤدّي نحو الكارثة. لكنْ للحلّ شروط، كما ذكرنا. والأحرى معرفة هذه الشروط أو الأساسي منها، على الأقل. ذلك يوفّر شيئاً من الأمان النفسي، فضلاً عن أنه يؤهل أكثر، لعمل إيجابي في سبيل تعزيز فرص الحل المنشود.
ولا بدّ من أن يمرّ «الحلّ» بتسوية. وقد تكون هذه جزئية أو عامّة، مؤقّتة أو دائمة. قد تتعثّر وقد تتطوّر. وفي ظروف لبنان فإن شرط التسوية هو قدرتها على تجسيد الحدّ الأدنى من مصالح طرفي الصراع، ليس في لبنان فحسب، بل في المدى الإقليمي والمدى الأوسع الدولي، أيضاً. هذا يجعل التسوية معقّدة، صحيح. لكن هذا هو شرطها لكي تتحقّق!
ولا نريد هنا، أن نحذّر من أسلوب إسقاط الرغبات الفردية والشخصية على الواقع لنستبدله بأسلوب آخر. فالصراع مفتوح، وهو في حالة نشاط في المديَين اللبناني والإقليمي والدولي (شأن لبنان)، وليس في حالة سكون.
وفي مجرى هذا الصراع قد تتغيّر موازين القوى أو تتحسّن، لمصلحة هذا الطرف أو ذاك... لكن يجري الحديث هنا، بالذات، عن إبقاء الصراع في لبنان سياسياً، فلا يتحوّل الى نزاع عسكري مدمّر لكلّ الأطراف اللبنانية.
ويجب القول بسرعة إنّ إصرار أي طرف على الحكم والتحكّم، منفرداً، هو أقرب السبل الى تعزيز احتمالات النزاع الأهلي المسلَّح. التفرّد يختزن العنف بالضرورة، أو يتوسّله عاجلاً أم آجلاً!
وتصبح المشاركة في الحدود الإيجابية أو السلبية (الحصول على أو التخلّي عن) هي الممرّ الإجباري لتنظيم الصراع في مداره السياسي السلمي المنشود. وغني عن التذكير، أنّ مثل ذلك هو المناخ، والممرّ الإجباري أيضاً، لتطوير أي مساومة وتحويلها من مجرّد تسوية جزئية الى حلّ ثابت ودائم.
لا يكفي ذلك، بالتأكيد، من أجل توجيه الانفعالات والتوتّرات الفردية، في اتجاه إيجابي، على الصعيد الفردي أو الجماعي. لا بدّ أيضاً، وأساساً، من وجود مشروع سياسي يستوعب جزءاً من التذمّر المذكور ويحيله على جزء من عملية تغيير بإتجاه بدائل أفضل.
والمشروع السياسي هذا، هو، للأسف ما نفتقده في صيغته الضرورية والمتماسكة والمتكاملة، حتى هذه اللحظة. وحتى يأتي الوقت الذي يمكن أن يولد المشروع الوطني، لا بدّ من العمل على أولوية المساهمة في الحفاظ على السلم الأهلي. إنّ «انتظار الحل» أمر ينطوي على سلبية بيّنة. ويمكن من ذلك تشكيل مجموعات ضغط أهلية ومدنية، تمارس بشكل منظّم ومثابر، دوراً سيكون مؤثراً بالتأكيد في خدمة كلّ اللبنانيين دون استثناء.
تبدو هذه المقاربة على قدر كبير من التبسيط. إنها في جانب منها كذلك بالفعل. ذلك أنّ الصراع جذري وكبير وشامل تقريباً. وهو بين أمور كبيرة أخرى، يطحن في صخبه أمنيات ورغبات صغيرة وحتى كبيرة. لكنّ المسألة هي، تقريباً، في الإمساك بطرف من الخيط، وذلك استحثاثاً لأدوار ومقاربات يمكن أن تبدأ صغيرة، وأن تتطوّر تباعاً. والمقصود مرة أخرى، تحفيز دور لبناني مبادر لصياغة مقاربة مختلفة عمّا هو سائد حاليّاً من انقسامات وصراعات تستمرّ في التعمق والتوسّع الى مستويات مخيفة.
الدور اللبناني المقصود هو في أن يغيّر اللبنانيون ما بأنفسهم من أجل أن تتغير أوضاعهم نحو الأفضل. فليس ممكناً من غير هذا الدور توقّع أيّ أمر إيجابي من المسارت الراهنة التي تسلكها الأزمة اللبنانية، وخصوصاً المفاوضات الدائرة بشأنها حالياً.
لا يفترض هذا التوجّه حياداً حول مسائل الصراع. وفي التعامل مع أزمات لبنان وأزمات المنطقة، لا بدّ من تحديد موقف وخيار. إلا أنّ المسألة تبقى على الأقلّ، في اختيار الأسلوب والأدوات، بما لا يجعل الصراع يخرج حتى عن سياق «الفوضى المنظَّمة»، نحو الفوضى الكاملة الساحقة والمساحقة، دون رحمة!
* كاتب وسياسي لبنان